تعود للظهور مُجددًا شخصية الأم الكبيرة، التي تحدثنا عنها قبل ذلك في قصة «أرملة مونتييل» هذه هي القصة الحقيقية للأم الكبيرة، عاهلة مملكة «ماكوندو» الأبدية.
ملخص الرواية
«ماكوندو» هو المكان الذي ستدور به بعد ذلك أحداث رواية الكاتب جابرييل جارسيا ماركيز الشهيرة «مئة عام من العزلة».
لقد مارست سلطاتها طوال 92 عامًا، وماتت في شهر سبتمبر الماضي.
الآن وقد استعادت الأمة التي اهتزت من الأعماق توازنها، الآن وبعد أن غادر القادمون من الأقاليم الستة التي نشأت في (ماكوندو)، ألا وهي، (سان خاثتو)، (غواخيرا)، (سينوا)، (غواكامايال)، (سيربي)، (أركاتاكا) بعد أن حضروا أروع جنازة سجلها التاريخ.
إن أحداث تلك الليلة والليالي التالية ستُنشر في ما بعد درسًا تاريخيًّا لا ينبغي أن يُنسى، إذن قد آن الأوان لرواية أدق التفاصيل منذ البداية، كي لا يبقى أحد في العالم دون أن يعرف جنازة الأم العظيمة.
بعد ليالٍ لا حصر لها من الكمادات واللبخات، وبعد أن خارت قواها في أثناء الاحتضار، أمرت الأم الكبيرة أن يجلسوها على مقعدها الهزاز كي تفصح لهم عن رغبتها الأخيرة قبل أن تموت.
في ذلك اليوم، وبمساعدة الأب «أنطونيو إيزابيل»، رتبت شؤون تجارتها مع أبناء أشقائها التسعة، وهم ورثتها المخلصون الذين سهروا حول سريرها، فقد كانت الأم الكبيرة عذراء بلا أبناء.
تعود للظهور مُجددًا شخصية الأب «أنطونيو إيزابيل»، التي تحدثنا عنها قبل ذلك في قصة «يوم بعد السبت».
كان العمال ينامون في البهو الرئيس، مكومين على أكياس الملح، في انتظار صدور الأمر بإخراج البغال، لتنشر الخبر المشؤوم في أنحاء الإقطاعية الكبيرة، وكان بقية أفراد الأسرة يتحدثون في مسألة الميراث، لكنهم مع ذلك حافظوا على مظاهر حدادٍ صارم، هو في الأصل تراكم لحدادات سابقة لا حصر لها.
اقرأ أيضًا ملخص 8 روايات رومانسية تستحق القراءة
الأم الكبيرة
بممارسة «حق وضع القدم»، كان الذكور قد ملؤوا بيوت القرى بسلالة من أبناء الزنا، دون أن يعترفوا بهم، فأصبحوا دون لقبٍ أو كنية.
«حق وضع القدم: حق يخول الإقطاعيين في العصور الوسطى بمضاجعة العروس ليلة زفافها قبل أن يقربها زوجها، وهو نوع من تأكيد الهيمنة والسطوة والسيطرة».
طوال القرن الحالي كانت الأم الكبيرة محط اهتمام «ماكوندو»، تمامًا كآبائها وأجدادها، فإليهم يرجع الفضل في تأسيس القرية، لكن لا أحد يعرف حتى الآن مصدر تلك الثروة، أو قيمتها الحقيقية، لكن الجميع كانوا على اقتناع تام بأن الأم الكبيرة تمتلك الدروب المجاورة، وأعمدة التليغراف.
فهي بلا شك أغنى سيدة في العالم، والأوسع سلطة ونفوذًا، ولم يخطر ببال أحدهم أن الأم الكبيرة ما هي إلا بشر فانٍ، باستثنائها هي وأفراد عائلتها.
عالجها طبيب الأسرة بلزقات الخردل، كان طبيبًا بالوراثة، وكان مُعاديًا -لقناعات فلسفية راسخة بعقله- لكل ما حققه الطب من تقدم، وقد منحته الأم الكبيرة امتيازًا بمنع وجود أطباء غيره في «ماكوندو».
بسبب التهاب المفاصل الذي ألمَّ به، اضطر إلى معاينة مرضاه دون زيارتهم، عن طريق التخمين، بعد أن يصف له أحدهم حالتهم الصحية.
لكنه عندما استدعته الأم الكبيرة، ذهب إليها مُتكئًا على عكازين، وعندما أدرك أنها تحتضر، دهنها بكل أنواع المراهم التي عرفها، وأعطاها كمًّا هائلًا من الحقن الشرجية، ثم عالجها بعد ذلك بوضع الضفادع المدخنة في موضع الألم، إلى أن اضطر في النهاية لإحضار الأب «أنطونيو إيزابيل» لطرد الشياطين منها.
اقرأ أيضًا سيميائية الزمان في روايات أحمد مراد/ دراسة تحليلية
عيد ميلاد مميز
ظلت الأم الكبيرة تحتفل بعيد ميلادها حتى بلغت السبعين، فقد كان عيد ميلادها مهرجانًا لا يُنسى، وكانت الاحتفالات تبدأ قبل يومين من يوم ميلادها، وتنتهي يوم ميلادها، وكان الخمر في متناول الجميع، وكانت تُذبح الماشية في الساحة العامة، وتعزف فرقة موسيقية مقطوعاتها.
وكانت تُنصب أكشاك لبيع كل ما لذ وطاب، كحلوى الماساتو والخبز الفرنسي والنقانق وشحم الخنزير وشطائر اللحم وثمار البونيويلو المقلية، بالإضافة لقلائد تحمل صورة الأم الكبيرة.
وكان أبناء الزنا في خدمة الضيوف وأفراد العائلة الشرعيين، وكانت الأم الكبيرة تجلس في منتصف القاعة، وتعطي تعليماتها بيدها المزينة بخواتم في أصابعها كلها، وقد اعتادت في ذلك اليوم، الإعلان عن الزيجات التي ستتم في العام المُقبل، وينتهي الاحتفال بإلقائها من الشرفة قطعًا نقدية على الحشود.
تَذكرَ الناس 200 متر سجاد التي بُسِطت من المنزل النبيل إلى الكنيسة، حين جاءت «ماريا دل روساريو كاستانيدا أي مونتورو» مأتم أبيها، لتمر على البُساط المفروش، وتتولى بعد ذلك مكانتها الجديدة، فتصبح الأم الكبيرة وهي في الثانية والعشرين من عمرها فحسب.
طلبت الأم الكبيرة أن يتركوها على انفراد مع «نيكانور» أكبر أبناء أشقائها، لتخبره بالتعليمات الأخيرة حول مصير جثمانها، وشعائر إلقاء النظرة الأخيرة على جثمانها، فقالت له: عليك أن تبقي عينيك مفتوحتين، واحتفظ بكل ما له قيمة في صندوق، فكثير من الناس لا يأتون لإلقاء النظرة الأخيرة على الميت، بل ليسرقوه.
اقرأ أيضًا ملخص رواية "دون كيشوت".. للكاتب الإسباني ميغيل دي ثربانتس
أملاك الأم الكبيرة
كان «نيكانور» قد كَتَبَ أملاكها في 24 صفحة، وبحضور الطبيب والأب «أنطونيو إيزابيل» شاهدين، أملت الأم الكبيرة على الكاتب بالعدل قائمة ممتلكاتها، مصدر عظمتها وسلطتها، فقد مُنِحت 3 إقطاعيات بمرسوم ملكي سامٍ خلال الحكم الاستعماري.
وبفضل زواج المصلحة، أخذت أيضًا 5 بلدات، وهكذا قُدِرت أراضيها بـ100 ألف هكتار، كان عشرات الأسر يعيشون فيها مستأجرين، وفي كل عام، كانت الأم الكبيرة تجلس في شرفة منزلها كأسلافها، وتمارس فعل التملك الوحيد الذي حال دون عودة تلك الأراضي إلى الدولة، ألا وهو جباية الإيجار، فتتلقى أجور حق السكن في أراضيها.
تمامًا كما كانت تدفعه لها الحكومة مقابل استخدام المواطنين للشوارع، وعندما تنتهي أيام الجباية، يكون فناء المنزل قد امتلأ عن آخره بالخنازير، والديوك الرومية والدجاج، والثمار التي كانت تُقدم إليها على أنها هدايا.
كانت قد أشارت في وصيتها إلى وجود جرار مملوءة بالذهب، دُفِنت في مكانٍ ما من البيت، ولم يُعثر عليها حتى الآن، ولم يتبقَ الآن سوى التعداد الدقيق لممتلكاتها المعنوية.
فقد بذلت الأم الكبيرة جهدًا هائلًا وهي تُملي على الكاتب بالعدل، قائمة ممتلكاتها غير المرئية، كثروات باطن الأرض، والمياه الإقليمية، وألوان العلم الوطني، والسيادة الوطنية، والأحزاب التقليدية، وحقوق الإنسان، والحريات المدنية، وحق الالتماس الثاني، والمرافعة الثالثة.
ورسائل التوصية، والاستمرارية التاريخية، والانتخابات الحرة، ومحكمة العدل العليا، والمواد المحظور استيرادها، ومسألة اللحوم، ونقاء اللغة، والصحافة الحرة، وندرة العملة الصعبة، وحق اللجوء، والخطر الشيوعي، والتقاليد الجمهورية، والطبقات المحرومة، ورسائل التأييد، بالإضافة إلى أشياء أخرى كثيرة لم تتمكن من سردها، لأنها قد نامت نومتها الأبدية.
اقرأ أيضًا ملخص رواية الغريب.. ورؤية لإحدى الروايات المترجمة لألبير كامو
جنازة لا مثيل لها
رأى سكان العاصمة صورة لامرأة في العشرين من عمرها على الصفحة الأولى من طبعات الصحف الاستثنائية، ظنوا أنها ملكة جمال جديدة، لكنها كانت صورة الأم الكبيرة التي التقطها لها مصور جوال مرّ بـ«ماكوندو» في بداية هذا القرن.
وقد قبعت في أرشيف الصحف سنوات طويلة في قسم الشخصيات المجهولة، وقد وُضِعت الآن في الحافلات والمصاعد وصالونات الشاي، لتبقى في ذاكرة الأجيال القادمة، وليعلم الآن، جميع من في أنحاء البلاد، اسمها الذي كان مجهولًا حتى ساعات قليلة.
قَرَعت جميع الكنائس أجراسها الجنائزية، وفي تلك الأثناء كان رئيس الجمهورية يحضر حفل تخريج دفعة ضباط جديدة، فلما عَلِمَ بالخبر، أمر وزير الحربية بأن ينهي خطابه بدقيقة صمت حدادًا وتكريمًا لروح الأم الكبيرة.
لقد أحدثت وفاتها اضطرابًا في المجتمع، فعندما استقل الرئيس سيارته ليعود إلى مكتبه، رأى أن المدينة قد فُجِعت بموتها، إذ لم تفتح حتى المقاهي أبوابها، وكانت كاتدرائية العاصمة متأهبة تسعة أيام من التكريم الجنائزي.
عندما عاد الرئيس إلى مكتبه، كان مُتأثرًا برؤية العاصمة في حداد، وكان وزراؤه ينتظرونه هناك بعد أن ارتدوا الزي المأتمي، وكانت وجوههم أكثر حُزنًا وشحوبًا عن المُعتاد.
فخلال سنوات طويلة، كانت الأم العظيمة قد وفرت لإمبراطوريتها السلم والأمن الاجتماعيين، بالإضافة إلى التوافق السياسي.
والفضل في ذلك يرجع إلى صناديق وثائق الاقتراع المزورة، التي كانت تعد جُزءًا من إرثها السري، فقد كان الذكور من خدمها، ومستأجري أراضيها، كبارًا وقاصرين، لا يقتصرون على ممارسة حقهم في الاقتراع وحسب، بل حق الناخبين الميتين منذ قرن كذلك.
وكانت في أوقات السلم، توافق أو ترفض الترقيات الكنسية، والتعيينات في المناصب المُربحة، والتعيينات في المناصب المُريحة، وفي الأزمنة العصيبة، أسهمت الأم الكبيرة سرًّا في تسليح أنصارها، وقدمت علنًا المعونة لضحاياها، فنالت بذلك أعلى التشريفات.
اقرأ أيضًا روايات رومانسية مصرية أثرت في تاريخ الأدب العربى
حداد وطني فوق العادة
لم يكن رئيس الجمهورية بحاجة لأن يلجأ إلى مستشاريه، كي يصدر قرار الحداد الوطني لتسعة أيام، وتكريمها بصفتها بطلة ماتت في ميدان المعركة من أجل الوطن، فقد عَبَّرَ لمواطنيه عن ذلك في خُطَبهِ الموجهة إليهم عبر الإذاعة والتلفزيون، وكان واثقًا من أن جنازة الأم الكبيرة ستكون أعجوبة للعالم بأسره.
كانت المشكلة في أن هيكل البلاد القضائي الذي وضعه أسلاف الأم الكبيرة، لم يكن مُهيأ لما حدث الآن، فأخذ فقهاء القانون من أجل الهدف المشترك، يفسرون النصوص القانونية، بحثًا عن صيغةٍ تسمح لرئيس الجمهورية بحضور مراسم تأبين جثة سامية.
ساعاتٍ غير متناهية امتلأت بكلمات ترددت في أنحاء الجمهورية، ومرت أيام عصيبة على الأوساط السياسية العليا للانتخابات في البلاد.
إلى أن قاطع أحدهم الاجتماع الطارئ لفقهاء القانون، مُذكرًا إياهم بأن جثمان الأم الكبيرة لن يستطيع الثَّبات أكثر من ذلك تحت درجة حرارة تخطت الأربعين مئوية.
وعلى الفور صدرت الأوامر بتحنيط الجثمان، ريثما يعثر الفقهاء على صيغ، أو تُجرى تعديلات دستورية، لتتيح لرئيس الجمهورية حضور الجنازة.
تجاوزت المناقشات حدود البلاد، وتسربت إلى بابا الفاتيكان في قصره بـ(غاندولفو)، كما تناقلتها الصحف في ذلك المساء، بعد أن استبدلت بصور الحادثة التي كانت حديث الساعة هناك وقتها، صورة لامرأة في العشرين من عمرها، مع شريط حداد، فعرفها البابا.
وعلى الفور استقل عربته السوداء، وتوجه ليحضر جنازة الأم العظيمة، بعد أن أَمَرَ بقرع أجراس الكاتدرائية تزامنًا مع أجراس (ماكوندو).
رجال ونساء تركوا أعمالهم المعهودة، سعيًا لجني ثروة من أشياء يبيعونها في جنازة الأم الكبيرة، وتخلى الجميع عن شؤونهم، وملؤوا بحضورهم الردهات، والممرات، ومن وصلوا متأخرين صعدوا أبراج المراقبة، ووقف الباقي مُتفرجًا من خلف الأسوار.
وفي القاعة الرئيسة، وسط جبلٍ من برقيات التعزية والمواساة، تناوبت حراسة مشددة على جثمان الأم الكبيرة المحنطة، بانتظار القرارات الكبرى.
اقرأ أيضًا ملخص رواية "في قلبي أنثى عبرية" لخولة حمدي.. روايات رومانسية
ميلاد عهد جديد
وكان بابا الفاتيكان يتناول الغداء مع الأب (أنطونيو إيزابيل)، وفي بعض الأحيان مع (نيكانور)، وظل مُنتظرًا على هذه الحال أشهرًا، إلى أن قرأ (باستور باسترانا) بيانًا فحواه أن رئيس الجمهورية يتمتع بصلاحيات استثنائية تتيح له حضور جنازة الأم الكبيرة.
في يوم الجنازة، أخلى الجنود الطريق من الحشود الغفيرة التي قدمت من (سان خورخي)، و(سان بيلانو)، و(كابو دي بيلا)، و(تاساخيرا)، و(موخانا)، و(ماناوري)، و(بايدوبار)، و(أيابيل)، و(ثيناغا)، و(لاكويبا)، و(ساباناس دي بوليفار)، و(ريبولو)، و(مومبوس).
فضلًا عن الأقاليم الستة سالفة الذكر، بالإضافة لقدماء محاربي الكولونيل (أوريليانو بوينديا) وعلى رأسهم الدوق (مارلبورو)، فقد حضروا الجنازة ليطلبوا من رئيس الجمهورية دفع رواتب التقاعد التي ينتظرونها منذ 60 سنة.
الكولونيل «أوريليانو بوينديا» هو أحد أبطال رواية الكاتب جابرييل جارسيا ماركيز الشهيرة «مئة عام من العزلة»، وكان الدوق «مارلبورو» صديقًا له.
في الحادية عشرة صباحًا انطلقت الجنازة، وفي مقدمتها نخبة من المحاربين، يتبعهم رئيس الجمهورية، وبابا الفاتيكان، والوزراء، وأعضاء مجلس النواب كافة، ومحكمة العدل العليا، ومجلس الدولة، ورؤساء الأحزاب، ومديرو البنوك، ورجال دين من أنحاء العالم كافة، إضافة لملكة جمال الكون، في مشهد مهيب لم يرَ الشعب مثله قط، أما أبناء أشقائها فلم يرهم أحد، فقد كانوا في تلك الأثناء مُنشغلين بحفر أساسات البيت لاقتسام الميراث، فور إخراج الجثمان.
وفي النهاية شعر الجميع بارتياح بعد أن انتهت أيام الصلوات الـ14، وبعد أن سُكِبَ كمٌّ لا بأس به من الرصاص لإغلاق القبر.
أدرك الجميع حينها أنهم يشهدون ميلاد عهدٍ جديد، فبإمكان رئيس الجمهورية الآن أن يجلس ليحكم وفق رأيه السديد، وأخيرًا، سيأتي الكناسون غدًا ليكنسوا القمامة التي خلفتها الحشود المشاركة في جنازتها حتى وقتٍ غير معلوم.
تنويه : إن ما قرأتموه لا يغني إطلاقًا عن قراءة القصة.
إذا حاز ما كتبناه إعجابكم فلا تنسوا الاشتراك حتى يتسنى لكم قراءة كل جديد.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.