دخل وقد ألقى بجذوة سرعان ما تحولت إلى شرارة فأشعلت المكان، أما هو فقد غادر في هدوء وترك الجميع يبحث عن مصدر لإطفاء تلك النار التي ازداد لهيبها التي أيضًا للأسف لم يُعْثَر لها على قطرة ماء تُطفئها.
من يحمل رائحة النار؟
إن الرجل الذي تدور حوله قصتنا اليوم عاش حياة ركيكة لا معنى لها، فمنذ نعومة أظافره وهو يجالس فتيات الحي والنساء اللاتي يجدن في الطبخ وإعداد الأكل هواية ما بعدها هواية، ولأنه قديمًا لم تكن تلك الأفران العصرية في البيوت، فقد كان يُؤْخَذُ بتلك الصواني المرصوصة بالكعك أو الخبز إلى فرن المدينة أو المخبزة لطهيه.
أما صديقنا، فكان هو من يوصل ذلك الخبز ويمكث هناك حتى يصبح طازجًا، وقد كانت تشدد عليه النسوة ألا يبارح مكانه أبدًا وألا يغفل عن الصينية مخافة أن تُستبدل بأخرى عن عمد أو سهو، أمَّا هو فقد كان نصيبه من تلك المهمة قطعة خبز أو حتى كعكتين يتناولهما على عجل دون أن يراه أحد، لينتهي به اليوم وهو فَرِحٌ بمهمته تلك التي فتحت عليه أبوابًا لم يُعْتَقَد أنها سَتُفْتَحُ يومًا.
لذلك ذاع صيته بين أفراد حَيِّهِ حتى الأحياء المجاورة، فأصبح مطلوبًا بكثرة للمهمات التي تتعلق بالتوصيل إلى الفرن، لقد كان متمسكًا بمهمته تلك ولم يستبدلها أبدًا، فهو عاشقٌ لها لدرجة أنه أصبحت تستهويه تلك الأفران التي رآها يومًا حين تسلَّل خلسة إلى الداخل ولمح تلك النار المستعرة وتلك الشرارات الصغيرة التي تتراقص وكأنها راقصات باليه في حفل موسيقي، فوقع في حبها منذ ذلك الحين.
لقد أصبح يتسلل خلسة إلى مطبخ بيتهم حين تكون أمه خارجًا ليسرق أعواد الكبريت من أجل استعمالها، فكان يبتعد قليلًا عن المنزل ويبدأ بإشعالها، فيُصاب بالدهشة من تلك الشرارات التي تتمايل أمام ناظريه لتلتقي في النهاية لتصبح نارًا، لكنها سرعان ما تخبو لأنها لم تجد ما تتمسك به من أوراق أو حتى أخشاب رفيعة تزيدها لهيبًا، لكن مع الوقت أصبح يجمع بقايا الأخشاب ليصنع منها نارًا كبيرة يستمتع بمشاهدتها.
لقد ازداد حبه لتلك النار، فأصبح جيبه لا يخلو من أعواد الكبريت، وبالمقابل كان لا بد لرائحة النار أن تلتصق به، فأصبحت الرائحة لا تغادر ملابسه، حتى اليوم الذي لا يجد فيه ما يُشعله نستطيع أن نشتم منه رائحة النار، فأضحت علامته المسجلة، وحين يُسْأَلُ عنه، يقال: ذلك الذي يحمل رائحة النار.
لقد مر يومًا بمجموعة لا يستهويها ما يفعله وأراد مجالستهم، وبمجرد أن اشتموا فيه الرائحة انفضوا من حوله مخافة أن تلتصق بهم.
ويمر الوقت وتتطور الأمور، ولا يصبح لعود الكبريت مكان، فقد حلت محله أداة في غاية الروعة والسلاسة، إنها الولاعة التي أحدثت ضجة حين ظهرت، فهي إضافة إلى أنها سهلة الاستعمال، فقد قضت على رائحة الكبريت التي كانت تنتشر بمجرد احتكاك العود.
لقد كانت النميمة في السابق لا تسمى نميمة إلا إذا اجتمعت أركانها سويًّا من موضوع، وفم يُرْسِلُ، وأذن تستقبل، لتكون نميمة مستوفية الشروط والأركان، أما الآن فقد أصبحت المدنية والتكنولوجيا هي من تُقَرِّبُ البعيد وتجعل الصعب هَيِّنًا بخصوص حديث يُرَادُ له الانتشار، فتكفي كبسة زر ليُصبح الموضوع رائجًا.
لقد كانت تقتصر على النمَّام والمتضرر وبعض أطراف الخصومة، أما الآن فقد أضحت تشمل الكل، القريب والبعيد، حتى الذي لا ناقة له ولا جمل في الموضوع، فإنه يُدْخِلُ أنفه في الموضوع، وهذا بفضل وسائل الإعلام والتواصل، ليُدْلِي بدلوه بخصوص موضوع لا يعنيه البتة.
آفة الفراغ.. مفسدة العقول والأبدان
إن من يدقِّق في الأمر فإنه يستخلص أن آفة الفراغ لهي مفسدة للعقول والأبدان، ومنه نرى أن الإنسان الذي يعاني منه لهو هدف جيد لهذه الظاهرة، عكس الذي هو منشغل بأمور تعنيه وتفيده، فإنه لا يملك حتى الوقت لحك فروة رأسه، مثلما يقال في المثل الشعبي، ولأن المرأة هي الأكثر تعرضًا لهذه الآفة، فإننا نرى أن لسانها طليق، وقد استسهلت الأمور، ولا تراعي الآداب العامة، فتكون بعيدة عن كل ما ينفعها ويفيدها وأسرتها.
في الواقع، حين أتحدث عن النميمة لا أقصد أنها سمة خاصة بالمرأة فقط، بل هي ظاهرة عامة، لكن ولأن المرأة أحيانًا لها من أوقات الفراغ أكثر من الرجل، فهي صَيْدٌ سهل لهذه الآفة إن لم تدرك ما يحدث حولها وتُفَرْمِلَ تلك المشاعر السلبية التي تقودها لأن تكون نَمَّامَةً أو مُشعلة للنيران.
فاحذرا أيها الرجل، أيتها المرأة، من أكبر عدو لكما، وهو الفراغ الذي لطالما تربص بكما ووقف لكما بالمرصاد من أجل أن يحوِّل روحكما ويجعلها هائمة لا تبصر الطريق.
أما وقد انتهينا من قصتنا، فإنه لا بد أن نستشف منها العبر، وهي آفة، وصديقنا مع صواني الكعك والخبز هو رمز لإيصال الكلام ونقله عن جهلٍ وعِلم، فيتضرر منه الغير، فقد كان أداة شر، والعياذ بالله، فنراه يُشعل النار أينما حلَّ، وذلك بالكلام الناري الذي ينقله، أما تلك الشرارات التي وقع صديقنا في حبها، فهي كناية عن الفرحة واللذة اللَّتين يشعر بهما حين يقوم بفعلته تلك، فيصبح مرغوبًا فيه، والكل يلتف حوله ليستمع لآخر الأخبار.
لقد شَبَّهْتُ ذلك الكلام بالشرر الذي يجتمع ويتكتل لِيُكَوِّنَ نارًا تقضي على الأخضر واليابس، وتلتصق به رائحة الفتن والمؤامرات التي يحيكها، أما حين مرَّ على الأشخاص الذين اشتموا به الرائحة وانفضوا من حوله، فهو دليل على أن هناك من يمقتها، فيحاول أن يبتعد عن مواطن الشبهات، أجارنا الله منها يا رب.
النميمة.. شرارة تلتصق بصاحبها
أما عود الكبريت الذي فقد بريقه ودوره الذي كان يلعبه، وحلت محله الولاعة الخارقة التي، كما ذكرت، لا رائحة لها، فلأنه ينشر النميمة بسرعة حتى إن المرء لا يشعر بها، فكثيرًا ما ترى أن الأمر ينتشر في وسائل الإعلام على أنه حقٌ، لنكتشف أن المراد منه باطلٌ.
لقد خُرِقَت كل المواثيق والعهود حين استعملها المرء استعمالًا لا يخدمه، فيضر به الآخر، ويضر نفسه أيضًا، في الوقت الذي لو استغلَّ فيه تلك التكنولوجيا لأغراض حميدة، لَاسْتَفَادَت منها الإنسانية، وجعل لنفسه أثرًا يُحْتَذَى به.
ولأن الله لا يظلم عبده، بل العبد هو من يظلم نفسه، فإنه لا بد لتلك الشرارات أن تلتصق بصاحبها، لتقدم له فروض الطاعة والولاء، ولتخبره بأنها منه وإليه، وأنها لن تختار عنه بديلًا، فَتُعَرِّجَ على بيته، وتُلقي ببعض ما بجعبتها، فيغدو البيت خرابًا، ليتعلم صديقنا أخيرًا درسًا، وهو أن اللعب بالنار لا بد أن يُحرقه.
قال المولى عز وجل: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة النور: 24).
يقول أبو حامد الغزالي: "من يثرثر لك سوف يثرثر عليك".
رائعة ...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.