«جثة بلا روح».. خواطر وجدانية

كنت أعيش في بيتٍ مملوء بالحب، حيث الضحكات تملأ الأرجاء، والأمان يسكن كل زاوية. كان والدي هو النور الذي يُضيء حياتي الرجل الذي يمنحني القوة بكلماته قبل أفعاله، ويجعل كل شيء يبدو أسهل وأبسط.

لم يكن مجرد أب، بل كان صديقي الأول، وحضني الدافئ، وسندي الذي لا يميل. لكن فجأة، بدأ كل شيء يتغير. صار أبي يشعر بالتعب أكثر من المعتاد، ينهكه الإرهاق دون سبب واضح. كنت ألاحظ ذلك، لكنني كنت أرفض التصديق. حتى عندما بدأ يفقد وزنه، وتراجعت حيويته، كنت أقنع نفسي بأنه مجرد إجهاد عابر، لكن الحقيقة كانت أقسى مما توقعت.

ذهبنا إلى الأطباء، وانتظرنا التشخيص بقلقٍ يخنقني. وعندما جاء الخبر، شعرت وكأن الأرض قد انسحبت من تحتي. أبي مريض... ليس مرضًا عابرًا، بل ذلك المرض الذي يخشاه الجميع، المرض الذي لا يترك خلفه سوى الألم والفراغ.

كنت أراقب الأيام وهي تسلبه مني ببطء، أرى ضعفه يزداد، وصوته يخفت، وعيناه اللتان كانتا تملآن عالمي بالأمان، تغمرهما نظرات تعبٍ لم أكن أطيق رؤيتها، المستشفى أصبح بيتي الثاني، وصوت الأجهزة الطبية صار مألوفًا أكثر ما يجب.

كنت أجلس بجانبه، أمسك بيده، وأحاول أن أخفي دموعي؛ لأنني كنت أعرف أنه يكره أن يراني ضعيفًا، لكنه كان يقرأني جيدًا، كما كان يفعل دائمًا، كنت أشعر به يحاول أن يطمئنني، على الرغْم من أنه هو من كان يحتاج الطمأنينة.

ثم جاء اليوم الذي كنت أخشاه، 26 فبراير 2018 اليوم الذي توقف فيه كل شيء اليوم الذي رحل فيه أبي، لا أستطيع حتى تذكر التفاصيل بوضوح، كأن عقلي رفض تسجيلها حتى لا يعيد تشغيلها في كل لحظة ضعف، فقط أتذكر الفراغ، أتذكر كيف شعرتُ حينها بأنني جثة بلا روح، كأن الحياة غادرتني معه، العالم استمر، الناس أكملوا حياتهم، لكنني كنت متجمدة في تلك اللحظة، لا أستطيع تجاوزها.

الأيام التي تلت رحيله كانت الأثقل في حياتي. كل شيء كان يذكرني به، صوته، ضحكته، حتى أبسط الأشياء كطريقة جلوسه أو الكلمات التي كان يكررها، كنت محاطة بالناس، لكنني لم أشعر بأي شيء سوى الوحدة. كيف يمكنني أن أعيش دون أبي؟ كيف يمكنني أن أواجه الحياة وحدي؟

لم أجد مفرًا سوى الكتابة. كنت أكتب عنه، أكتب كل تفصيلة صغيرة، كأنني أحاول أن أحتفظ به بين السطور، ألا أدعه يضيع بين الذكريات.

ومع الوقت، أدركت شيئًا مهمًا: أبي لم يرحل تمامًا. ما زال يعيش داخلي، في كلماته التي أرددها دون وعي، في قراراتي التي أتخذها بناءً على نصائحه، في كل مرة أواجه موقفًا وأسأل نفسي: "ماذا كان أبي سيفعل؟". هو ليس هنا، لكنه لم يغب. وجوده محفور في قلبي، في روحي، في كل جزءٍ مني. رحمك الله يا أبي، وأعانني على هذه الحياة من دونك.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة