"جثة الشحات أمام نقطة البوليس".. قصة قصيرة

 قال جاري وهو جلوس في ركن من أركان المقهى: 

كان شيخ ضرير، هيئته تدعو للشفقة، رث الثياب، قد أنهكته السنون، وهدَّته الشيخوخة، لا تسمع منه سوى حشرجة تخرج من بين شفتيه إذا أحس باقتراب شخص منه، ويمد يده  طلبًا للإحسان.

وكنت أسمع تلك الحشرجة كلما مررت به كل صباح أو مساء، في طريقي من منزلي إلى نقطة البوليس التي أعمل رئيسًا لها في أحد نجوع الوجه القبلي، ولم يكن يحلو له التسول إلا بجوار سورها الخارجي. 

ولم يكن الرجل يغادر جلسته هذه بجوار سور النقطة منذ الصباح الباكر حتى تغيب الشمس.

وكان صبية المطعم المقابل للنقطة، يأتون له بشطيرة يسد رمقه بها، وكوب من الشاي.. يسلمونها يدًا بيد. 

وعندما تسلمت عملي، ولاحظت وجوده، دُهشت أن يختار هذا الضرير نقطة البوليس بالذات لكي يتسول بجوارها، وهي التي تحارب التسول وتعده جريمة، وحين لفت نظره أحد الجنود ذهب يتسول بعيدًا، لكن الأيام أخذت تمر، وهو يقترب خطوة خطوة، حتى عاد إلى مكانه القديم. 

وكنت أنا أراه دائمًا في ذهابي وعودتي، لكني لم أكن ألقي إليه بالًا؛ لأنني كنت في تلك الأيام مشغولًا بعصابة شديدة الخطر اتخذت من نجوع النقطة مسرحًا لجرائمها المتعددة. 

كانت تسطو على الفلاحين، وتسرق مواشيهم وأموالهم حين عودتهم من الحقل في الطريق المقفر، وعندما كان يحاول أحد الفلاحين المقاومة دفاعًا عن ممتلكاته، كان يسقط مضرجًا بدمائه، وفي جسده أكثر من رصاصة انطلقت من مدفع رشاش يحمله رئيس العصابة. 

وذات يوم كانت الشمس تميل إلى الغروب، حين غادرت النقطة في دورية بالخيل، وشاهدت الرجل الشحاذ وأنا أهم بالخروج، فوضعت يدي في جيبي، وأخرجت قطعة نقود معدنية قذفت بها في حجره، ثم مضيت. 

وفي الطريق لا أدري لماذا أعادت إليَّ ذاكرتي عم رزق، وعندما تذكرته قفز إلى ذهني خاطر مفاجئ، فقد تذكرت قطعة من المارك الألماني كنت أحتفظ بها كتعويذة أتفاءل بها، وفي الوقت نفسه تعيد إلى ذاكرتي ليلة خالدة قضيتها في برلين؟ 

وتذكرت أنني أخطأت فقذفت بها في حجر عم رزق المتسول الضرير. 

وبعد ساعات عدت قافلًا بعد أن انتهت الجولة، وعندما اقتربت من القرية سمعت صرخة امرأة تستغيث، وشاهدت رجلًا يدفع المرأة، ويجذب حبل بقرة كانت تمسك بها، وفي لحظات كنت في أعقاب الرجل الذي ما كاد يشاهد القوة تتبعني حتى ولَّى الأدبار، فتبعته بسرعة.

وعندما أصبحت على بعد خطوات منه، استدار ناحيتي، وصوَّب إلينا مدفعه الرشاش، وأخذ يطلقه في جنون، فوجَّهنا إليه نيران بنادقنا، وما هي إلا لحظات حتى صمت المدفع الذي يحمله، وسقط الرجل في الوحل، وأسرعت إليه، وعندما وقفت عند رأسه رأيت شيئًا يلمع في الأرض في الظلام، فانحيت أتناوله، وما كدت أقربه من بصري حتى فوجئت بأن ذلك الشيء لم يكن سوى قطعة المارك الألماني التي أعطيتها للعم رزق. 

وعدت إلى النقطة لأبلغ النيابة، وتركت جثة الشيخ رزق في حراسة الجنود؛ فقد كان هو زعيم العصابة! 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة