أقدم جامعة بالعالم عندما تتبادر إلى ذهنك هذه العبارة أو يسألك شخص ما أقدم جامعة في العالم؟ فقد تظن أن هذه الجامعة موجودة في أوروبا حيث الجامعات المشهورة مثل جامعة أوكسفورد وجامعة السوربون، أو حتى في دول ذات حضارة عريقة مثل الصين أو الهند، لكن التاريخ يكشف عن مفاجأة مذهلة في قلب مدينة فاس المغربية العريقة، وهي جامعة القرويين الموجودة في مدينة فاس التي وضعتها منظمة اليونيسكو على قمة قائمة أقدم جامعات العالم، إضافة إلى دخولها إلى موسوعة جينيس للأرقام القياسية كونها أقدم جامعة لم ينقطع فيها التعليم منذ تأسيسها المذهل عام 859 ميلادي أي نحو 12 قرنًا حتى اليوم، والأكثر إثارة للدهشة، أن هذه المنارة العلمية العريقة أسستها امرأة، هي فاطمة بنت محمد الفهرية القيروانية، الملقبة بـ«أم البنين».
يدعوك هذا المقال في رحلة عبر الزمن لاستكشاف تاريخ جامعة القرويين، وبنيتها الفريدة التي تجمع بين المسجد والمكتبة والجامعة، ومخطوطاتها النادرة وتأثيرها العالمي، وأبرز علماء جامعة القرويين الذين أثروا العالم، ودورها كونها مركز إشعاع حضاري، وصولًا إلى وضعها في العصر الحديث، فلننطلق في هذا المقال في جولة لاستكشاف قصة جامعة القرويين المغربية أقدم جامعة في العالم.
تاريخ تأسيس جامعة القرويين (859 م)
تأسست الجامعة الشهيرة مع تأسيس مدينة فاس عام 859 ميلاديًا (الموافق 245 هجريًا)، حيث كانت المدينة عاصمة لدولة الأدارسة، فسبقت بذلك جامعة الأزهر في مصر التي تأسست بصفتها مؤسسة تعليمية نحو 970 م، وجامعات أوروبية عريقة مثل بولونيا التي تأسست نحو 1088 م، وأوكسفورد التي بدأ التدريس فيها نحو 1096 م.
مع العلم أن عددًا من المواقع الأثرية التاريخية الموجودة في دول ذات حضارات عريقة مثل الهند والصين والعراق تدل على وجود أماكن للدراسة والتعليم، لكن هذه الأمكنة انقطعت عن الدراسة ونشر العلم، وباتت آثارًا تاريخية فحسب، وهو ما لم يحدث مع جامعة القرويين التي استمرت في تقديم خدماتها التعليمية ومنح الدرجات العلمية دون انقطاع.
أنشئت جامعة القرويين بمدينة فاس في القرن التاسع، حيث كانت المدينة في ذلك الوقت قبلة للأئمة والعلماء والمكتشفين والمثقفين من كل مكان، رغبة في الحصول على المعرفة والاطلاع على آخر ما وصل إليه العلم، وكانت المدينة ممتلئة بالأسواق والميادين والنوافير والدروب المتشابكة، وهو ما تطور في القرون التالية، إذ شهدت فاس طفرة عمرانية كبيرة خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
فاطمة الفهرية أم البنين ودور المرأة في بناء العلم
نعم، هذا العنوان صحيح، فجامعة القرويين، مع كونها أقدم جامعة في العالم، فهي أيضًا أقدم جامعة أو مؤسسة تعليمية تقدم التعليم العالي تؤسسها امرأة، وهي «فاطمة بنت محمد الفهرية» التي كانت ملقبة بـ«أم البنين» التي عاشت في مدينة فاس بعد أن هاجرت إليها برفقة والدها محمد بن عبد الله الفهري وأختها مريم الفهرية من مدينة القيروان في تونس، وتزوجت هناك في مدينة فاس، ثم توفي الوالد، فقررت الأختان التبرع بالميراث كاملًا لتأسيس مسجد وجامعة.
كان نصيب الأخت مريم خُصِّص لبناء المسجد الأندلسي، والموجود حتى الآن في وسط المجمع ويتسع نحو 20 ألف مصلٍ، أما نصيب الأخت فاطمة الفهرية فكان مخصصًا لبناء المؤسسة التعليمية التي سُميت بجامعة القرويين من أجل نشر العلم والمعرفة في مدينة فاس، ثم إن الجامعة مجاورة للمسجد، وقررت السيدة فاطمة الفهرية أن تصوم لله حتى يكتمل بناء الجامعة، وتذكر بعض البحوث والمصادر أنها صامت نحو 18 عامًا.
وصف أقدم جامعة في العالم.. مجمع القرويين (المسجد والمكتبة والجامعة)
عندما نتحدث عن جامعة القرويين أقدم جامعة في العالم، فإننا نقسم الأمر إلى ثلاثة أقسام هي المسجد والمكتبة والجامعة التي أصبحت مؤسسة واحدة بعد ذلك يُشار إليها بجامعة القرويين الجامعة الأولى في العالم.
المسجد الجامع.. تحفة معمارية ومركز للعبادة والعلم
على الرغم من أن مسجد القرويين بني في البداية على مساحة صغيرة، فإنه وُسِّع على مراحل تاريخية متلاحقة، ليصبح أحد أكبر المساجد الموجودة في شمال إفريقيا، ويستوعب نحو 20 ألف مصلٍ، ويُسْمَح للسياح بإلقاء نظرة على صحن المسجد، ومشاهدة أساليب العمارة التي بُني بها، والنقوش اليدوية، والنوافير التي يمكن رؤيتها من أبوابه الضخمة في جوانبه الأربعة.
ولأن المباني الموجودة حول المسجد لا تسمح برؤيته بوضوح بسبب تلامس الأسطح وتداخل الممرات الضيقة، ويمكن رؤية المسجد من أعلى بالتصوير الجوي للاستمتاع بمظهر المجمع والتصميم المعماري الرائع لمسجد القرويين الذي زُيِّن بالزخارف اليدوية ذات الطراز العربي المغربي، وتأثرت أيضًا بالتصميمات الأندلسية في عمل النوافير التي تشبه نوافير قصر الحمراء في غرناطة.
يمتد المسجد على مساحة تصل إلى سبعة أفدنة، ويقع سقف المسجد على 270 عمودًا، ويحتوي مصباح أو ثريا المسجد الكبير على 509 مصابيح، ويزن نحو 800 كيلوغرام، وهو ما يعطيك فكرة عن حجم المسجد وقدرته الاستيعابية.
مكتبة القرويين.. كنز المخطوطات النادرة وأحد أقدم مكتبات العالم
كما أن جامعة القرويين تُعد أقدم جامعة في العالم، فإن مكتبة القرويين من أقدم المكتبات الموجودة في العالم، على الرغم من أنها أُغلقت سنوات طويلة أمام الجمهور، وظلت مفتوحة أمام العلماء والدارسين، وكما وُسِّع المسجد على فترات متلاحقة، تم أيضًا توسعة المكتبة وإضافة مساحة كبيرة في عهد الأسرة المرينية (القرن 14 م)، لتستوعب هذا العدد الكبير من الكتب التي تضم أكثر من 20 ألف كتاب كُتِبَت بخط اليد، إضافة إلى أكثر من 4000 مخطوطة نادرة. ومن بين هذه الكنوز الأدبية والعلمية والتاريخية، وتوجد نسخة أصلية قديمة من كتاب «العِبَر» لعبد الرحمن بن خلدون، وكتاب «الموطأ» للإمام مالك على رق الغزال، وكتاب «المقدمة» لابن خلدون.
تتمتع مكتبة جامعة القرويين بوجود خزانة بنيت في القرن السادس عشر، وصُنع لها خصيصًا باب مُصفَّح بأربعة أقفال، لا يمكن فتحه إلا بأربعة أشخاص، ويقوم كل منهم بحمل مفتاح لفتح الباب في وقت واحد، وهو نظام أمني خُصِّص لحماية المخطوطات الثمينة الموجودة في الخزانة. وفي العصر الحديث، لم يبقَ إلا مفتاح واحد ما زال يعمل لفتح الخزانة، ويحمله محافظ خزانة القرويين.
الجامعة تطور المناهج من العلوم الدينية إلى العالمية
مع مرور السنوات، تحوَّل الجامع من مجرد كونه مسجدًا مُلحقًا بمكتبة متواضعة ومدرسة لتعليم القرآن، إلى مؤسسة كبيرة تقدم خدمات تعليمية هائلة، وتمنح الدرجات العلمية في مجالات عدة، بل ويأتي إليها طلاب العلم والدارسون والباحثون من كل مكان في العالم، نظرًا للقيمة الكبيرة التي تقدمها المؤسسة التعليمية، وعلى الرغم من أن القائمين على جامعة القرويين في البداية كانوا يهتمون بالعلوم الدينية؛ فإن الأمر بعد ذلك شمل علوم اللغة والقانون والطب والفلك.
يُذكر أيضًا أن جامعة القرويين تُعد أقدم جامعة في العالم تمنح الكراسي العلمية، وأول جامعة منحت إجازة في الطب، واشتهرت الجامعة في العصور الوسطى بكونها مركزًا للثقافة الإسلامية والعربية، وهو ما ساعد عليه طرد المسلمين من إسبانيا في القرن الثالث عشر، فقد جاء كثير منهم ومعه أسرار العلوم والفنون والمعارف المختلفة، وهو ما ساعد على ارتقاء جامعة القرويين إلى مستوى لم تشهده من قبل في القرن الرابع عشر، فقد وصل عدد الطلاب في الجامعة إلى نحو 8 آلاف طالب.
ومع زيادة عدد الطلاب والدارسين، ورغبة الجميع في الدراسة في جامعة القرويين، أصبح هناك نظام صارم لاختيار الطلاب وقبولهم في أقدم جامعة في إفريقيا، فكان يعتمد الاختبار على حفظ القرآن، والمعرفة باللغة العربية، إضافة إلى أسئلة في المعلومات العامة، من أجل التحقق من جدية الدارس وأحقيته في الانتساب لجامعة القرويين أقدم جامعة في العالم العربي.
منارات علمية عبر العصور.. أبرز خريجي وعلماء القرويين وتأثيرهم
من الأمور المهمة في تاريخ جامعة القرويين، أن السلطان كان وحده الذي يستطيع تعيين المعلمين والمدرسين في الجامعة، إضافة إلى أن نظام الدراسة في الجامعة كان يسمح للطلاب باختيار المناهج والأساتذة بطريقة تخدم العملية التعليمية التي شهدت كثيرًا من العلماء مثل: الفيلسوف العربي «ابن رشد»، و«البابا سلفستر الثاني» الذي نقل الأرقام العربية من جامعة القرويين إلى أوروبا، و«الدبلوماسي الأندلسي ليون الإفريقي»، و«الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون»، و«مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون»، و«الشريف الإدريسي»، و«الرحالة ابن بطوطة»، وغيرهم من الأسماء اللامعة في جميع المجالات.
جامعة القرويين في العصر الحديث.. من مقاومة الاستعمار إلى جامعة حكومية
أما عن وضع جامعة القرويين في التاريخ الحديث، فقد كان الأساتذة والطلاب في الجامعة جزءًا من المقاومة المغربية ضد الاحتلال الفرنسي، فأطلق عليها الفرنسيون لقب «البيت المظلم»، وكانت الأوقاف التابعة لجامعة القرويين تمثل دعمًا كبيرًا في الأزمات الاقتصادية الطارئة في دولة المغرب.
تم دمج جامعة القرويين عام 1947 في النظام التعليمي الحكومي، وأصبحت جامعة حكومية حديثة عام 1963، وفي عام 1965 أُطلق عليها رسميًّا «جامعة القرويين»، وقُسِّم برنامج الدراسة في الجامعة إلى ثلاث كليات، وبدأ العمل على تحديثها وتنظيمها لتواكب أفضل الجامعات الموجودة في العالم.
الوضع الحالي لجامعة القرويين وفروعها بين الأصالة والتحديث
وتقدِّم جامعة القرويين في الوقت الحالي مجموعة كبيرة من الدورات التعليمية والبرامج المتنوعة التي تتناسب مع احتياجات الطلاب المختلفة، وتضم 11 كلية في مجالات تكنولوجيا المعلومات، والهندسة المعمارية، والطب البيطري، والتجارة والإدارة، والزراعة، والعلوم الإنسانية، والطب، والهندسة، والعلوم، والقانون، والدراسات الإسلامية.
وفي الأخير، فإن جامعة القرويين أقدم جامعة في العالم، كانت فكرة امرأة أرادت خدمة مجتمعها، وتحولت إلى واقع أثَّر في ملايين الناس، وتردد صداه في كل قارات العالم، ودفع الأوروبيين إلى تأسيس مؤسساتهم العلمية الخاصة على غرار جامعة القرويين، وهو ما يوضح لنا أهمية العلم في بناء الأمم وصناعة الحضارات التي بدأت على أرضنا العربية واستفاد منها الآخرون.
وفي نهاية المقال، نرجو أن نكون قد قدمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعمَّ الفائدة الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.