في السنوات الأخيرة، تحوَّلت الكتب من مصدر للتفكير والتأمل، إلى أدواتٍ للتزيين، و«منشورات» للعرض، وصورٍ مُنمَّقة على وسائل التواصل الاجتماعي وبالأخص «إنستجرام»، وصار مشهد فنجان القهوة بجوار كتاب جديد، أو رفوف مكتبة ملونة، أكثر حضورًا من النقاش الحقيقي عن مضمون ما نقرأ، فهل نقرأ حقًا لنفهم؟ أم أصبحنا نستهلك الثقافة كما نستهلك الموضة؟
القراءة، في جوهرها، فعل مقاومة، مقاومة للسطحية، وللجهل، وللضجيج الذي يُخفي المعنى ويُغرقنا في التفاصيل الفارغة. أن تقرأ يعني أن تُبطئ في عالم مسرِع، أن تتوقَّف لتفهم، أن تسأل بدل أن تردِّد، أن تواجه العالم بأفكارك لا بأفكار الآخرين، القراءة الحقيقية تعني أن تنزل إلى العمق، أن تُقلقك كلمة، وتوقظك جملة، وتربك يقينًا ظننته لا يهتز.
لكن حين تُختزل القراءة في «تريند»، وتُحوَّل إلى ماركة اجتماعية نُعلِّقها على أكتافنا مثل حقيبة فاخرة، فإنها تبدأ في فقدان جوهرها شيئًا فشيئًا، تصبح الكتابة وسيلة لإرضاء خوارزميات التطبيقات، لا ضمير الكاتب، ويصبح القارئ باحثًا عن كتاب «يُصوَّر جيدًا» أكثر من كتاب «يُفهم بعمق»، وتتحوَّل رفوف المكتبات إلى ديكور، والمراجعات إلى فقرات دعائية، وأحيانًا، يتحوَّل النقاش الثقافي إلى استعراض لغوي بلا جذور.
لا عيب في مشاركة ما نحب، ولا حرج في الاحتفاء بالكتب الجميلة أو الأغلفة الجذابة، فالجمال جزء من المتعة، لكن الخطورة تظهر حين تتحول القراءة إلى وسيلة تلميع شخصي، حين يُختزل القارئ في صورته مع الكتاب، لا في حواراته مع أفكاره، حين تُستخدم الثقافة وسيلة لبناء «البراند الشخصي» لا الوعي الذاتي.
وهنا يفقد القارئ شيئًا مهمًا: الصدق مع الذات؛ لأن القراءة ليست أداة للزينة، بل أداة للبحث والتغيير، فعندما تُستخدم لمجرد الإبهار، تصبح فارغة من المعنى الذي خُلقت لأجله، فليس كل من أمسك كتابًا قرأه، وليس كل من قرأه فهمه، وليس كل من فهمه تغيَّر به.
في زمن «السوشيال ميديا»، تغيَّر وجه القارئ، لم يعد القارئ هو ذاك الشخص المنغمس في صفحات الكتاب، المتأمل في معانيه، المتوقف عند كل جملة ليسأل: «ماذا تعني؟»، بل صار هو من يلتقط صورته مع الكتاب قبل أن يفتح صفحته الأولى، يحرص على أن تكون الإضاءة مثالية، والكوب بجانبه دافئًا، والغلاف ظاهرًا بوضوح.
تغيَّر السؤال من: «ماذا قرأت؟» إلى «كم كتابًا أنهيت هذا الشهر؟»، وكأن الهدف لم يعد الغوص في عمق نصٍ ما، بل اجتياز أكبر عدد من الصفحات بأي ثمن. تحوَّل الفعل القرائي من تجربة ذاتية متأنية، إلى عرضٍ عام يُطلب فيه التصفيق الرقمي، وأصبحت الثقافة نفسها تُقاس بعدد «اللايكات» والتعليقات، لا بمدى الأثر الذي تُحدثه الكلمة في الداخل.
صرنا نرى مراجعات أدبية تفتقر للتماس الحقيقي مع النص، تنقل ملخصات سريعة، وآراء مقتضبة قد لا تتجاوز الغلاف الخلفي، وصرنا أيضًا نتابع سيلًا من التوصيات التي تنهال مع كل إصدار جديد، لا لأن العمل يطرح سؤالًا عميقًا أو يقدم قيمة فكرية، بل فقط لأنه «ترند»، أو لأن الكاتب يملك حضورًا قويًا على المنصات الاجتماعية.
وهكذا، انقلب المشهد؛ لم تعد القراءة فعلًا حرًا يقوده الشغف، بل صار مشروطًا بما تفرضه «خوارزميات الاهتمام»، ولم يعد القارئ يبحث عمَّا يُثري وعيه، بل عمَّا يُرضي جمهوره، صار الانتماء إلى مجتمع القُرَّاء أشبه بالانضمام إلى نادٍ مغلق، تُثبت عضويتك فيه بنشر صورة، لا بطرح فكرة.
لكن الحقيقة أن الكتاب لا يُفهم من عدد صفحاته، بل من عدد المرات التي عاد فيها القارئ إلى نفسه بعد قراءته، من عدد الوقفات الصامتة التي أثارها، وعدد المرات التي قلب فيها فكرة قديمة على رأسها، لا من عدد الإعجابات على صورة الغلاف، بل من عدد الأسئلة التي فجَّرها النص داخله، من تلك اللحظات التي أغلق فيها الكتاب فجأة لأنه شعر أن ما قرأه أصابه في نقطة عميقة لم يعرفها في نفسه من قبل.
الثقافة الحقيقية ليست استهلاكًا سريعًا، بل بُطءٌ مقصود، تأملٌ عميق، انزعاجٌ صحي، وحوارٌ لا ينتهي مع الذات، هي أشبه بالمشي في طريق لا تعرف نهايته، لكنك تواصل السير لأن كل خطوة تمنحك شيئًا مختلفًا: أفقًا أوسع، أو قلقًا أصدق، أو تساؤلًا يوقظ شيئًا نائمًا داخلك.
القراءة الحقيقية لا تريح القارئ، بل تُربكه، لا تُرضيه دائمًا، بل تُشاكسه، تهزُّ يقينه، وتجعله يعيد النظر فيما كان يظنه ثابتًا، إنها عملية بناء وهدم في آنٍ معًا، لكنها هدم يُفضي إلى اتساع، لا إلى فراغ.
وربما، في هذا العالم المتخم بكل شيء، نحتاج أكثر من أي وقت مضى أن نعيد تعريف علاقتنا بالكتب، أن نكفَّ عن التعامل مع الفكر كمنتج يُستهلك مرة واحدة ثم يُركَن، ونعود إلى قراءته كنبض يُعاش، كرفيق يومي، كمرآة لا تُظهر ملامحنا فقط، بل ملامح عقولنا أيضًا، لأن ما نقرؤه لا يُقاس بعدد الصفحات التي انقضت، بل بمدى تحوُّلنا بعد الكلمة الأخيرة، بالأسئلة التي لم نجد لها إجابة بعد، وبالقلق النبيل الذي يرافقنا طويلًا بعد غلق الغلاف.
👍👍👍👍
مقال رائع … ويحكي واقعنا
Bravo
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.