تفشي السب والشتم والكلام البذيء في المجتمع.. هل فسدت أخلاقنا؟

في الشوارع والأزقة، في الحافلات والمقاهي، حتى في المدارس وأروقة الجامعات، لم يعد للحياء موطئ قدم، ولم يعد للكلمة الطيبة صوت يُسمع. سباب هنا، شتائم هناك، وكأن لحن الكلام لم يعد يكتمل إلا ببضع كلمات بذيئة تُلقى بلا وعي، وكأنها بهارات الحديث التي لا يستقيم طعمه دونها. مشهد صارخ لا تخطئه عين ولا ينكره أحد: ألفاظ نابية تتطاير كالرصاص، تخدش الآذان، وتنهش ما تبقى من الذوق العام.

لكن كيف وصلنا إلى هنا؟ هل فسد الذوق حتى صار القبح فنًّا؟ أم أننا أمام ظاهرة أعمق، تُخبرنا أن الأخلاق لم تعد كما كانت؟ هل نعيش في زمنٍ أصبح فيه السب والشتم مجرد "عادة"، كأنها جزء من النسيج الاجتماعي، لا يُنكرها أحد ولا يعترض عليها أحد؟ وهل الفساد الأخلاقي وليد هذه الظاهرة أم أنها مجرد عارض لمرض أعمق وأخطر؟

لقد تناولت هذه المشكلة في مقال سابق تحت عنوان: شيوع الكلام الفاحش وانتشاره في المجتمع.. ظاهرة تستحق الدراسة. وتناولت فيه جذور هذه الظاهرة وأسباب تفشيها، لا سيما في هذا العصر، وكيف نحد منها. لكن أردت في هذا المقال، تناول الظاهرة على نحو أعمق، لما وجدته من انتشار مروع لهذه الألفاظ البذيئة؛ حتى فاقت حدود التصور.

استشعرت الخطر عندما وجدت الكلام الفاحش بدأ يتسلل لكلامنا العادي ببراءة، ورويدًا رويدًا أصبح جزءًا لا يتجزأ منه، ولما رأيته يؤثر في رافضيه أنفسهم؛ فقولت لا بد من وقفة حقيقية هنا، نفهم منها ما هذا، هل هذا فساد للذوق والأخلاق، أم أن البذاءة أصبحت عادة، بل عادة غير مستنكرة.

تفشي البذاءة في المجتمع.. هل أصبح الكلام الفاحش عاديًّا ومألوفًا؟

بلا شك هو أصبح كذلك، في مصر لم تعد الشتائم مجرد انفلات لحظي تحت ضغط الغضب، بل صارت لهجة يومية، مفردات تُقال بلا خجل، بل أحيانًا بفخر وكأنها جزء أصيل من الشخصية. في الحارات الشعبية، في الأحياء الراقية، بين العمال، بين الأكاديميين، حتى بين الأطفال والفتيات، الجميع يتحدث بذات اللغة، وكأن الفصاحة في زمننا هذا تعني أن تكون "فصيح اللسان في السباب"!

"يا عمّ ده كلام عادي، كلنا بنقول كده!".

هكذا يبرر البعض انتشار هذه الظاهرة، لكن متى أصبح "العادي" مقياسًا للصحيح؟ هل لأن الجميع يفعلها، تصبح صحيحة؟ وهل لو انتشر القبح، يُصبح جمالًا؟

لم تعد الشتائم مجرد انفلات لحظي تحت ضغط الغضب بل صارت لهجة يومية ومفردات تُقال بلا خجل

شهادات من رحم الشارع

في أحد المقاهي الشعبية بمنطقة وسط البلد، يدور حديث عادي بين شابين، كل جملة لا تخلو من سباب مقذع، لكن الغريب أن الضحكات تتعالى بعد كل شتيمة وكأنها نكتة! وحين سُئل أحدهم لماذا يستخدم هذه الألفاظ، أجاب ببساطة: "ما لو مقلتهاش هتحس إني مؤدب زيادة عن اللزوم، والدنيا عايزة اللي لسانه طويل!".

في موقف آخر، في مدرسة ثانوية للبنات، تروي إحدى المعلمات: "أصبحت أسمع شتائم بين الطالبات لا يستطيع رجل في مقهى شعبي التلفظ بها قديمًا، وحين أوبِّخهن، أسمع الرد المعتاد: عادي يا ميس، كلنا بنتكلم كده!".

أما في وسائل النقل، فالقصة أكثر سوداوية: سائق ميكروباص يطلق وابلًا من الشتائم لأحد الركاب لأنه لم يُعطه الأجرة بالورقة الصحيحة.

فتاة تُسب علنًا في الشارع لأنها رفضت مضايقة أحدهم.

رجل سبَّ الدين علنًا لمجرد أن الإشارة الحمراء أوقفته لثوانٍ إضافية!

أرقام ودراسات صادمة

وفق دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، فإن أكثر من 73% من الشباب المصري يستخدمون الألفاظ النابية يوميًّا، ونحو 40% منهم يرون أن الشتائم "عادة اجتماعية لا تستوجب التغيير".

دراسة أخرى أجرتها جامعة الأزهر عام 2022 تشير إلى أن نسبة انتشار الألفاظ البذيئة زادت بنسبة 60% خلال العقد الأخير، خاصة مع ازدياد المحتوى الإعلامي والموسيقي الذي يطبع البذاءة بطابع المرح والقبول الاجتماعي.

هل نحن أمام "عُرف" جديد؟

إن المشكلة ليست فقط في انتشار الكلام الفاحش، بل في قبوله. صار الأمر طبيعيًّا لدرجة أن بعضنا يرى في الشخص المهذب "كائنًا غريبًا من كوكب آخر"! أين ذلك الحرج الذي كان يصيب الشخص إذا تفلتت منه كلمة نابية أمام الكبار؟ أين ذلك الخجل حين كنا نخفض أصواتنا إذا جاء ذكر كلمة غير لائقة؟

المفارقة أن بعض الذين يتحدثون بهذه الطريقة لا يقبلونها على أهلهم، بل قد ينفجرون غضبًا إذا سمعوا أحدهم يوجه الكلمات نفسها لأخته أو والدته! فكيف تحلل لنفسك ما تحرِّمه على غيرك؟!

حين تصبح البذاءة فنًّا.. الإعلام ومواقع التواصل في قفص الاتهام

لم تعد الألفاظ النابية مجرد وسيلة للتنفيس عن الغضب، بل تحولت إلى "تريند" يتصدر المشاهدات ويصنع النجوم. أصبحنا نعيش في زمن يُكافأ فيه الفُحش ويُتَابع صاحبه بالملايين، بل يُطلب منه مزيدًا من ذلك، حتى باتت الشتائم جزءًا من لغة الترفيه، بل معيارًا للنجاح عند بعضنا.

تحولت الألفاظ النابية إلى

خذ مثلًا الظاهرة "عبعاطي! نعم هكذا يطلقون عليه" -مع كامل الاحترام لشخصه- لكنه نموذج حيٌّ لما نتحدث عنه. يقدم برنامجه على مواقع التواصل الاجتماعي بأسلوب يعتمد على الشتائم الصريحة والمباشرة، لا بوصفها زلَّة لسان أو رد فعل غاضب، بل عنصرًا أساسيًّا في المحتوى! النتيجة: ملايين المشاهدات، وتصفيق وتشجيع من الجمهور، بل واستحسان لما يقول! كأن الناس فقدوا الحساسية تجاه القبح، وكأن السباب أصبح مثل التوابل التي تجعل الكلام "أطعم" وألذ.

عبعاطي يحبه الكبار والصغار، الشباب والبنات، المتعلمون والعوام، وكأن هذا هو العادي، الفحش تحول لشيء مألوف ومستساغ! بل لغة مذاح وتنكيت. المفارقة أن برنامجه يحمل اسم: مع كامل احترامي!

هل تتخيل أن جيلًا نشأ وهو يرى أن الضحك لا يكتمل إلا بسماع ألفاظ بذيئة؟! وأن التريند لا يشتعل إلا كلما زادت الجرعة السوقية؟ في الماضي، كان الكوميديان يُضحك الناس بمواقف طريفة وسخرية ذكية، اليوم، يكفي أن يسبَّ أحدهم ضيفه بكلمة نابية حتى تتضاعف المشاهدات، وينتشر المقطع كالنار في الهشيم.

هنا يكمن الخطر الحقيقي: التطبيع. أن نصل إلى مرحلة يصبح فيها الفحش مرادفًا للمرح، والسباب جزءًا من "اللايف ستايل"، وأي اعتراض عليه هو "تنطع" و"تزمت"!

إذا كان هذا هو الواقع، فالسؤال الذي يفرض نفسه: إلى أي مدى سنصل إذا استمر الأمر بهذا الشكل؟ هل نرى يومًا تتحول فيه الشتائم إلى لغة رسمية في الإعلام؟ هل يتحدث بها المسؤولون على المنابر؟ هل تصبح جزءًا من المناهج الدراسية؟! لا شيء مستبعد إذا استمر المجتمع في احتضان القبح وتجميله، بدلًا من استنكاره.

الخيار في النهاية لنا: إما أن نستيقظ قبل فوات الأوان، أو ننتظر حتى يصبح الفحش هو القاعدة، والكلام المهذب هو "الشذوذ" عن المألوف.

الأسباب غير التقليدية وراء تفشي ظاهرة الكلام الفاحش والبذيء

قد نظن أن انتشار الكلام الفاحش مجرد عرض جانبي لظواهر اجتماعية أخرى، مثل نقص الوعي، سوء التربية، أو الانفتاح الزائد، كما ذكرنا في المقال السابق الذي تحدثنا فيه عن الأسباب العامة والخاصة لتفشي تلك الظاهرة.

فكنا نتناوله من منطلق كونه ظاهرة اجتماعية سلبية منتشرة، كغيرها من الظواهر لا أكثر، مثل: التنمر والإدمان والبلطجة، لكن ما نراه اليوم ليس مجرد "انتشار"، بل "تطبيع". لم تعد البذاءة انحرافًا عن المألوف، بل أصبحت هي المألوف ذاته. وهذا التحول لا يمكن تفسيره فقط بالعوامل التقليدية، بل توجد أسباب أعمق، أشبه بجذور متشابكة تمتد في بنية المجتمع ذاته.

1- موت "العيب" وغياب الرقيب الداخلي

قديمًا، كان يوجد مفهوم يسمى "العيب"، حاجز غير مرئي يقف بين الإنسان والفعل المشين. لم يكن الشخص بحاجة إلى شرطي يراقبه؛ لأن رقيبًا داخليًا يمنعه من الخطأ. اليوم، تآكل هذا المفهوم تدريجيًا حتى اختفى، وحل محله مبدأ "اعمل اللي يعجبك، ومتخليش حد يحدد لك الصح والغلط". ونتيجة لذلك، لم يعد الناس يخجلون من التلفظ بالبذاءة، بل أصبحوا يتفاخرون بها وكأنها دليل على الجرأة والانفتاح.

2- البذاءة وسيلة لإثبات القوة والوجود

لماذا يُستخدم السباب في كل حوار تقريبًا، حتى بين الأصدقاء؟ لأننا نعيش في مجتمع أصبح العنف الرمزي فيه وسيلة لإثبات الذات. الشاب الذي لا يشتم يُنظر إليه على أنه "ضعيف"، والفتاة التي تتحدث بتهذيب تُتهم بأنها "متحفظة زيادة عن اللزوم". الشتائم أصبحت طريقة لإثبات القوة، وكأن الكلام الفاحش هو النسخة اللفظية من استعراض العضلات!

إن انتشار الكلام الفاحش وظاهرة السباب لم يعد مجرد تنفيس عن الغضب، بل تحوَّل إلى لغة تُستخدم بوعي لتعزيز المكانة الاجتماعية، وكأن ثقافة السب والشتم صارت مرادفًا للنفوذ والهيمنة.

3- سيطرة ثقافة "التحلل" من أي قيد اجتماعي

يوجد فرق بين الحرية والتحلل من القيم، المجتمعات التي تفهم الحرية على نحو صحيح تعرف أنها تعني المسؤولية، أما حين يتم فهم الحرية على أنها التحرر من أي التزام أخلاقي أو اجتماعي، فإننا نصل إلى ما نحن عليه اليوم: شتائم تُلقى بلا وعي، وكأنها "زينة" للحوار، وتحولت ألفاظ كانت تُعتبر من المحرمات إلى مصطلحات دارجة يتلفظ بها الصغير قبل الكبير.

أشير إلى أن التقلبات القوية في المجتمع كالثورات التي حدثت في عصرنا، تزامنًا مع الانفتاح الزائد، كل هذا كفيل بجعل منظومة القيم تنهار.

4- الإعلام والفن.. تطبيع القبح

ليس سرًّا أن الدراما، والأغاني، والمحتوى الرقمي أسهمت في إعادة تشكيل الوعي العام. في الماضي، كان الخطأ يُقدَّم كخطأ، أما اليوم فقد أصبح القبح مسلِّيًا، والفاحش "كوميديًّا"، واللغة السوقية عنوان الفن؛ وأصبح لدينا "أبطال" في السينما والتليفزيون لا يتحدثون إلا بلغة السوقة والبلطجية. حتى الأغاني لم تعد تحمل أي معنى دون جرعة مكثفة من الألفاظ الخارجة، والكلام الهابط..

ليس سرًا أن المحتوى الهابط على التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي سبب رئيس في تطبيع القبح

يقول الدكتور "حسن فريد"، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة: "عندما يعتاد الإنسان سماع الكلمات النابية في كل وسيلة ترفيه، من الأغنية إلى المسلسل إلى برامج المقالب، فإنه يفقد الإحساس بكونها خاطئة، ويبدأ في استخدامها دون أي إدراك لحجم المشكلة".

5- أزمة الفراغ الروحي والمعنوي

إن الإنسان الذي يملأ روحه بالمحتوى القيم، ويعيش حياة ممتلئة بالمعنى، لا يجد نفسه مدفوعًا نحو القبح. ولكن في مجتمع يعاني الخواء الداخلي، فلا يوجد مشروع فكري أو قيمي يُشغل الناس، تصبح الشتائم أثرًا لحالة عامة من الضياع. عندما يُسأل أحدهم لماذا يشتم، تكون إجابته عادة: "مش عارف، كده وخلاص". وهذه الإجابة تلخص الأزمة كلها.

لا نبحث عن المثالية

لا نريد أن نصبح مثاليين، لا يتلفظ أحد بأي لفظ مشين بتاتًا؛ لأن الفحش موجود منذ القدم ولن ينتهي، لكن فقط نريد أن يبقى العيب عيبًا كما كان، لا يتحول فجأة إلى عادة وطبع؛ نريد أن يبقى الفحش مذمومًا في مكانه الطبيعي في أماكن العربدة والسهرات، لا في المدارس والجامعات، يبقى بين المنفلتين والمدمنين، لا بين الأكاديميين والجامعيين، يبقى في لحظات الغضب، لا عند المذاح والطرب.

الفحش عندما يصبح وباءً: أثر البذاءة في الفرد والمجتمع

حين تنتشر العدوى الأخلاقية، لا يكون الضحية فردًا واحدًا، بل ينخر الوباء في نسيج المجتمع كله. قد يظن بعضنا أن الكلام الفاحش مجرد كلمات، لكنها في الحقيقة قنابل موقوتة تهدم فقط، وتفسد العلاقات، وتلوث الأذن، وتقتل الذوق، وتصنع جيلًا سليط اللسان لا يحسن التعبير إلا بالسوقية، ولا يعرف الاحترام إلا كفكرة مهجورة في كتب الأخلاق.

الفرد بين التلوث اللغوي والانحدار النفسي

الكلمة ليست مجرد صوت عابر، بل هي هوية، وثقافة، وانعكاس لما في الداخل. حين يُصبح القبح في اللسان، فهذا يعني أنه متجذر في الفكر والوجدان. النبي ﷺ قال: "ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحش البذيء" (رواه الترمذي). إذن، فحش الكلام ليس مجرد "حرية تعبير"، بل هو انحراف نفسي وأخلاقي عن معيار الإيمان ذاته.

المشكلة الأكبر أن الفحش لا يتوقف عند حد الكلمات، بل يترك أثرًا نفسيًّا عميقًا على صاحبه. الشخص الذي يعتاد على البذاءة يجد نفسه تدريجيًا أكثر ميلًا للعنف، أقل قدرة على ضبط النفس، أسرع إلى الشجار والخلافات. دراسة أجراها "معهد السلوك اللغوي" في جامعة كامبريدج أكدت أن الأفراد الذين يستخدمون الشتائم بكثرة لديهم مستوى أعلى من التوتر والعدوانية، بل ويعانون من علاقات اجتماعية أكثر اضطرابًا مقارنة بغيرهم.

مثال واقعي: في إحدى التجارب الاجتماعية، طُلب من مجموعتين من الأشخاص التحاور في موضوع خلافي: الأولى مُنعت من استخدام أي ألفاظ بذيئة، في حين الثانية سُمح لها باستخدام الشتائم. النتيجة؟ المجموعة الأولى استطاعت الوصول إلى حل وسط، في حين تحولت المجموعة الثانية إلى ساحة صراع وخصومة انتهت بانسحاب بعض الأفراد! هذه ليست مجرد كلمات إذن، بل هي معاول تهدم الجسور بين الناس.

حين يتفسخ النسيج الاجتماعي

هل تخيلت مجتمعًا لا يعرف أفراده كيف يتحدثون دون شتائم؟ حيث تكون البذاءة هي لغة التواصل الوحيدة بين الجار وجاره، بين الطالب وأستاذه، بين الموظف ومديره؟ هذا المشهد ليس خيالًا، بل حقيقة نراها تتأصل يومًا بعد يوم.

1- الأسرة.. الضحية الأولى

حين يسمع الطفل أباه يسبُّ، وأمه تلعن، وأخاه الأكبر يتحدث بلسان سوقي ولغة الانحطاط، فماذا تتوقع أن يكون؟ العنف اللفظي في المنازل لا يتوقف عند حد الكلمات، بل يتحول تدريجيًّا إلى سلوك يومي يطبع شخصية الطفل بالخشونة والجفاف.

حين يسمع الطفل أباه يسب وأمه تلعن وأخاه يتلفظ بالقبح فسيتطبع بطبعهم

قال الحسن البصري رحمه الله: "بُذاءة اللسان عنوان خبث الجَنان"، فحين يكون اللسان سليطًا، فهذا دليل على فساد الداخل. تخيل أن الأطفال الذين ينشأون في بيئة ممتلئة بالكلام الفاحش يصبحون أكثر عرضة لتبني سلوكيات منحرفة مستقبلًا، مثل التنمر، والعنف الجسدي، بل حتى الجرائم الصغيرة.

2- انهيار الاحترام في المجتمع

في مجتمعاتنا العربية، كان للكلمة وزن، وللأدب مكانة. كان الأب يُحترم، والمعلم يُوقر، والكبير يُحسن إليه. اليوم، انقلبت المعادلة، وأصبحت الشتائم تُقال في وجه الكبار، دون خجل أو حياء. في دراسة صادمة نشرها مركز "الأبحاث الاجتماعية في القاهرة"، وُجد أن 80% من الشباب المصري يرون أنه لا مشكلة في السباب طالما أنه "مش متعمد للإهانة"! وكأن احترام الآخر صار خيارًا وليس واجبًا!

3- الفحش مقدمة للعنف الجسدي

ما يبدأ بكلمة، قد ينتهي بلكمة! هل تعلم أن معظم المشاجرات التي تنتهي بجرائم قتل في الشوارع، أو في مباريات كرة القدم، أو حتى بين الأقارب، تبدأ بـ"كلمة فاحشة" تلقيها الريح في أذن غاضبة؟

الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" حذَّر من ذلك قائلًا: "الفحش يُورث الفحش، والسباب يجرُّ الخصام، والكلام البذيء أول سهام الشيطان". فما أن ينطلق اللسان بشتيمة، حتى تبدأ كرة النار في التدحرج، ولا أحد يعلم إلى أين ستصل!

4- ضياع الحياء.. السقوط في مستنقع الوقاحة

الحياء ليس مجرد فضيلة، بل هو صمام أمان يحفظ المجتمعات من الانحدار في مستنقع الفوضى الأخلاقية. حين يضيع الحياء؛ يصبح كل شيء مباحًا: الكلمات البذيئة تُقال بلا خجل، المشاهد المسيئة تُعرض بلا استحياء، والمجاهرة بالسوء تصبح علامة "تحرر" بدلًا من أن تكون وصمة عار.

قال النبي ﷺ: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت" (رواه البخاري). أي إن فقدان الحياء هو الخطوة الأولى نحو الفساد الأخلاقي الشامل.

خذ مثالًا من واقعنا: في الماضي، كان الرجل إذا تفوَّه بكلمة نابية أمام امرأة شعر بالخجل، واليوم قد تجد من يتفاخر بذلك! بل الأسوأ أن بعض الفتيات أنفسهن صرن يتحدثن بالطريقة نفسها، وكأن الحياء أصبح "ضعفًا" لا ميزة! في دراسة أجراها "معهد القيم الاجتماعية" في فرنسا، وُجد أن المجتمعات التي يتراجع فيها الحياء تشهد ارتفاعًا في معدلات التحرش، والإساءة اللفظية، والعنف الأسري، لأن فقدان الحياء يعني فقدان الحدود!

العودة إلى الرقي.. هل يمكن إنقاذ المجتمع؟

الحل ليس في القوانين والعقوبات وحدها، فالقوانين قد تردع، لكنها لا تُصلح النفوس. المطلوب هو ثورة في الذوق العام، حركة اجتماعية تعيد للكلمة قيمتها، وتعيد للحياء مكانته.

  • الإعلام مسؤول: يجب أن تتوقف القنوات عن بث محتوى يجعل البذاءة أمرًا مضحكًا ومقبولًا. لماذا لا تُعاد هيبة اللغة العربية الراقية في الدراما والبرامج؟
  • الأسرة نواة التغيير: الآباء يجب أن يكونوا قدوة في حديثهم، فالكلمات التي يسمعها الطفل اليوم هي لغته غدًا.
  • المدارس والمساجد والكنائس دورها حاسم: إعادة تدريس "فن الحوار" في المدارس، ونشر ثقافة "الكلمة الطيبة صدقة" في خطب الجمعة ودروس الوعظ.
  • التكنولوجيا أداة إنقاذ أو دمار: مواقع التواصل ليست شرًّا مطلقًا، لكنها تفصح عن ثقافة المجتمع. تخيل لو انتشر تحدٍّ بين الشباب يُلزمهم بعدم استخدام أي كلمة نابية لمدة شهر! هل يمكن أن يحدث فرقًا؟ ربما، لكنه يستحق المحاولة!

وقد تحدثنا من قبل عن هذه الحلول بالتفصيل في مقال سابق كما أشرنا.

مواقع التواصل ليست شرًّا مطلقًا لكنها تفصح عن ثقافة المجتمع ومحرك رئيس لتوجهه

أسئلة وأجوبة حول التخلص من السب والشتم والكلام الفاحش والبذيء

1. كيف أتخلص من التلفظ بالكلام الفاحش والبذيء؟

التخلص من هذه العادة يتطلب وعيًا وإرادة قوية. إليك بعض الخطوات الفعالة:

  • الرقابة الذاتية: راقب كلماتك واستشعر ثقلها، فالكلمة قد تكون سببًا في بناء العلاقات أو هدمها.
  • استبدال العادات: كلما هممت بقول لفظ بذيء، استبدل به كلمة مهذبة أو التزم الصمت.
  • تجنب المؤثرات السلبية: إذا كنت محاطًا بأشخاص يستخدمون هذه الألفاظ، حاول تقليل الاختلاط بهم أو التأثير فيهم إيجابيًّا.
  • شغل اللسان بالذكر: ذكر الله والاستغفار يساعدان في تهذيب اللسان.
  • مكافأة النفس: ضع لنفسك تحديًا بعدم النطق بأي كلمة بذيئة مدة أسبوع، وإذا نجحت، كافئ نفسك بشيء تحبه.
  • ذكِّر نفسك: بأن السبة سترد عليك وعلى أهلك، هم لا يستحقون ذلك.
  • تذكَّر عقاب الله: للمتلفظ بمثل هذه الكلمات.

2. ما عقاب الله لمن يتلفظ بألفاظ بذيئة ويسبُّ ويلعن؟

الكلام الفاحش واللعن من الكبائر التي حذر منها الإسلام، والدليل قوله ﷺ: "إن اللعَّانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" (رواه مسلم). وفي حديث آخر: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" (متفق عليه).

وقد توعد الله سبحانه وتعالى الفاحشين بعذاب شديد، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18). أي أن كل كلمة مسجلة، وسيحاسب عليها العبد يوم القيامة.

3. كيف أمنع طفلي من قول الشتائم والبذاءة؟

  • كن قدوة حسنة: الطفل يتعلم بالقدوة، فإذا كنت تتحدث بأدب، سيفعل هو ذلك أيضًا.
  • وضِّح له العواقب: أخبره أن الكلام الفاحش يؤذي الآخرين ويجعلهم ينفرون منه.
  • استخدم أسلوب التعزيز: امدح الطفل كلما استخدم لغة مهذبة، واجعله يشعر بالفخر عند حديثه بطريقة راقية.
  • أبعده عن المصادر السلبية: الصحبة السيئة، والشارع فهو يعلم جميع أنواع المساوئ، وراقب البرامج التي يشاهدها والمحتوى الذي يتعرض له على الإنترنت، فكثير من الفيديوهات تروِّج للغة السوقية كأمر طبيعي.
  • اجعل له بدائل: علِّمه كلمات أخرى تعبر عن مشاعره دون حاجة إلى الشتائم.

4. هل الكلام الفاحش يؤثر في شخصية الإنسان؟

نعم، فقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين يكثرون استخدام الألفاظ النابية يكونون أكثر عدوانية وأقل قدرة على ضبط النفس، أيضًا فالبيئة المحيطة تبدأ في تقييمهم على نحو سلبي.

5. هل للكلام الفاحش أثر في المجتمع؟

بلا شك، فانتشار الكلام البذيء يؤدي إلى:

  • تآكل الاحترام بين الأفراد.
  • انخفاض مستوى الذوق العام.
  • زيادة النزاعات والصراعات بسبب الألفاظ الجارحة.إفساد لغة الحوار؛ ما يجعل التعبير عن الرأي قائمًا على السب والشتم بدلًا من النقاش الراقي.

6. ما حكم المزاح بالألفاظ البذيئة؟

يظن بعضنا أن السبَّ والشتم إذا كان على سبيل المزاح فلا بأس به، وهذا خطأ شائع. قال النبي ﷺ: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم سبعين خريفًا" (رواه البخاري). والكلمة البذيئة، ولو كانت على سبيل المزاح، قد تؤذي غيرك أو تؤدي إلى خلافات لا تُحمد عقباها.

7. هل توجد طريقة عملية لضبط اللسان؟

نعم، جرِّب هذه الطريقة: ضع لنفسك "حصالة أخلاقية"، وكلما نطقت بكلمة بذيئة، ضع مبلغًا من المال فيها، ثم تصدَّق به نهاية الشهر. ستلاحظ أنك ستتردد في السبِّ، لأن ذلك سيكلفك شيئًا!

8. ما البدائل المهذبة التي يمكن استخدامها بدلًا من الشتائم؟

يمكنك استخدام تعبيرات مثل: "يا ساتر"، "يا إلهي"، "ما هذا؟"، "هذا غير معقول" بدلًا من اللعن والسبِّ. الجميل أن البدائل المهذبة تعطيك هيبة واحترامًا أكبر، فلا أحد يحترم صاحب اللسان البذيء.

9. كيف أمنع الآخرين من سبي وشتمي بمثل هذه الكلمات؟

ابدأ بنفسك: لا تفعل هذا وسوف يحترمك الناس، ولن يتجرأ أحد على إيذائك بكلمة.

10. ما الكلام الفاحش وكيف أفرق بينه وبين الكلام المقبول؟

الكلام الفاحش هو كل لفظ أو فعل أو حركة أو إيماءة أوإشارة: مخالفة للآداب العامة والعرف والدين، تحمل قبحًا ووقاحة وإهانة، أو خادشة للحياء؛ حتى لو لم يكن اللفظ يحمل معنى مشينًا أو خادشًا للحياء، أو لا يحمل معنى، فيكون بذيئًا وفاحشًا إذا عدَّه العرف كذلك، حتى لا يقول البعض إن ألفاظ الاعتراض المعروفة ليست من قبيل الكلام الفاحش؛ لأنها لا تحمل معنى مذمومًا.

الكلمة مسؤولية، فإما أن تبني بها جسورًا من الاحترام، أو تهدم بها علاقاتك، والاختيار لك!

الكلمة مسؤولية فإما أن تبني بها جسورًا من الاحترام أو تهدم بها علاقاتك والاختيار لك!

كلمة أخيرة

تخيل أن يكون أكثر ما نشتهر به بين الشعوب، هو سلاطة اللسان والبذاءة، حقًّا يا للعار!

اجعل لسانك عنوانك، وكلماتك مرآة نفسك، ما تقوله ليس صوتًا بل هوية. فإذا أردت أن تعرف أين يتجه مجتمعك، استمع إلى حديث أفراده. وإذا وجدت أن البذاءة أصبحت هي السائدة، فاعلم أننا بحاجة إلى أكثر من مجرد مقال، بل إلى صحوة حقيقية تعيد للمجتمع احترامه، وللإنسان إنسانيته.

المصادر

1. خالد محمد العوضي. "شيوع الكلام الفاحش وانتشاره في المجتمع: ظاهرة تستحق الدراسة". منصة جوك، 2024, https://jawak.com/الكلام-الفاحش-وانتشاره-في-المجتمع-ظاهرة-تستحق-الدراسة-36869

2. المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. "دراسة حول استخدام الألفاظ النابية بين الشباب المصري". القاهرة، 2022.

3. جامعة الأزهر. "تأثير انتشار الألفاظ البذيئة على المجتمع المصري خلال العقد الأخير". القاهرة، 2022.

4. فريد، حسن. "التغيرات الاجتماعية واللغوية في المجتمعات العربية الحديثة". مجلة علم الاجتماع، العدد 15، 2021، ص 45-67.

5. معهد السلوك اللغوي - جامعة كامبريدج. "أثر استخدام الشتائم على التفاعل الاجتماعي ومستوى التوتر". لندن، 2020.

6. الحسن البصري. "بُذاءة اللسان عنوان خبث الجَنان". كتاب الأخلاق والسلوك، تحقيق: محمد يوسف، دار النشر الإسلامية، بيروت، 1987.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

موضوع مهم فعلا . وتعظيم البلطجة في العالم كله يعد السبب الرئيسي لأن امريكا رمز البلطجة تتحكم بالعالم وهي تؤيد البلطجية ف العالم أيضا و لا احد يحاسبها ولهذا تغير الناس في كل العالم . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

نحن السبب الرئيسي وليست أمريكة
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة