تطور كتابة التاريخ ومناهج البحث فيه

لا شك أن التاريخ علم قديم يرجع إلى الوقت الذي ترك فيه الإنسان آثاره على الصخور. وربما كانت تلك الصور التي حفظتها لنا كهوف الإنسان الأولى، هي أول ما دوَّن الإنسان من تاريخه. 

إن التدوين التاريخي يسبق بكثير اهتداء الإنسان إلى الكتابة، إذ عمل الإنسان الأول على أن يصور حياته ويسجلها في تلك الصور التي يحفرها على جدران كهفه البدائي. والتاريخ نفسه يسبق مرحلة التدوين التاريخي، إذ إنه قديم قدم الحياة البشرية على الأرض، وإن لم يصل علمنا إليه إلا من ثنايا الحفريات التي تكشف كل يوم عن الجديد من حياة الإنسان الأول.

شعوب الشرق القديم وكتابة التاريخ

إن كتابة التاريخ بالمعنى المعروف كانت نادرة عند سكان الشرق الأدنى القديم، واكتشاف الكتابة وبدء قياس الزمن جعلا من الممكن الاحتفاظ بوثائق في المعابد، تحوي حوليات. وهو ما كتبه المصريون والبابليون والآشوريون والعبرانيون، وكانت تتضمن ذكر الخوارق المحضة (كظهور مذنبات، وبقرات ثنائية الرؤوس)، ولم يكن التاريخ في تلك الأيام سوى ضرب من الميثولوجيا أو قصص أساطير الأولين.

ويرى بارنز في كتابه "تاريخ الكتابة التاريخية" أن الأحوال الجوية جعلت مصر متحفًا تاريخيًّا حقيقيًّا، أو كما قال برستد "كتابًا تاريخيًّا ضخمًا"، وساعدت في حفظ مصادر قيِّمة للمعلومات التاريخية في مقابر الملوك والقصور والمعابد.

وحينما تأثرت الثقافة المصرية القديمة بالثقافة الهللينية، ظهر كاتب مصري هلليني الثقافة في بلدة سبنيتوس (سمنود الحالية) على عهد بطليموس الأول (305-285 ق.م) وكتب تاريخًا عن مصر القديمة استمده من مصادر مصرية قديمة. ولسوء الحظ ضاع مؤلفه، ولم تصل إلينا منه سوى مقدمته التي نقلها المؤرخان يوليوس أفريكانوس وأوزبيوس ولخصها اليهودي يوسيفوس.

والبابليون والآشوريون قد تقدموا على قدماء المصريين تقدمًا قليلًا في جمع الوثائق التاريخية، ولكن لم يظهر بينهم مؤرخ من طراز مانيتو حتى تأثرت الحضارة البابلية بالحضارة الهللينية. 

والوثائق التاريخية الخاصة بقدماء المصريين والبابليين والآشوريين لم تتجاوز أنساب الملوك، وتسجيل الحملات الحربية، والمدائح الموجهة إلى العواهل. إذ إن الملابسات الاجتماعية التي مهَّدت لظهور هذا اللون من ألوان التاريخ الممل غير الشائق، لم تسمح بازدهار لون آخر من ألوان التاريخ أرقى وأكثر أصالة.

وتفوق الصينيون على الشرق في الأدب التاريخي؛ ويعلل روبرت فلنت ذلك بشدة إحساسهم بحقائق الحياة، وفرط احترامهم لأسلافهم.

وقد عُني البابليون بكتابة التاريخ مثل الصينيين، ومن المسائل التي لا تزال موضع خلاف: مسألة نشأة كتابة التاريخ اليابانية، وهل كانت نتيجة حافز قومي، أم كانت أثرًا من آثار الاحتكاك بالصين؟ ويرى المتخصصون أن كتابة التاريخ الياباني لا ترجع إلى أبعد من القرن السادس قبل الميلاد.

إن أقدم محاولات اليهود للكتابة التاريخية عهدًا هي المحاولة التي قام بها كُتاب مجهولون بكتابة أصول الأسفار الخمسة، وسفر يسوع، وسفر صموئيل الأول والثاني، وسفر الملوك الأول. 

ونلمس في التوراة إبراز المقدرة الإلهية في حياة اليهود، ولم يكن هناك سبيل لإثبات هذه المقدرة أفضل من عرض تاريخ هذا الشعب. وقد التزم كُتاب التوراة في سرد الوقائع أسلوبًا شرقيًّا، واستعملوا التعبيرات الشرقية، واستساغوا حدود الخوارق والمداخلات الإلهية المباشرة.

الإغريق وكتابة التاريخ

إن أول كتابة تاريخية ذات شأن ظهرت عند الإغريق كانت في الأشعار المنسوبة إلى هوميروس، ولا تزال شخصية هوميروس يحوطها الغموض والتضارب، وموطنه غير محدود، لأن عددًا من المدن الإغريقية ادعت أنه مسقط رأسه. 

الإغريق وكتابة التاريخ

ومهما كان الأمر، فقد عُني هوميروس أشد العناية بتمجيد البطولة والأبطال والإشادة بما كان لأبطال الإغريق من بلاء في الحروب، ويتضمن شعره القصصي معلومات وافرة عن المجتمع اليوناني والثقافة اليونانية. 

وفي القرن السادس قبل الميلاد بدأ الإغريق يحررون العقل البشري من سلطان الخرافة، وتلمسوا العلل لظواهر طبيعية نُسبت إلى نزوات الآلهة وأهوائها.

ولما جاء هيردوت (نحو 484-425 ق.م)، الذي لُقب "بأبي التاريخ" الذي يعد أول المؤرخين الإغريق، كتب كتبه التسعة، وأطلق عليها اسم "التواريخ".

وكان هيرودوت رحالة مطبوعًا على حب الاستطلاع والحرص على التزود من المعرفة، وكان يسأل ويستفسر ويجمع المعلومات والأخبار بمختلف الوسائل والسبل. وكانت الحرب الفارسية اليونانية في رأي هيرودوت تمثل تصادم طرازين من طرز الحضارة، وهما الحضارة الهللينية والحضارة الشرقية، وعمد إلى تحليل عناصر هاتين الحضارتين.

ويأتي بعد هيرودوت المؤرخ ثوكيديديس (نحو 471-401 ق.م)، وهو ثالث مشاهير مؤرخي الإغريق الذي كتب في مقدمته عن "الحروب البلوبونيزية" يقول: "إنه يكتب من أجل الفائدة التي يمكن أن نحصل عليها من معرفة حقائق الماضي". 

ولقد أظهر ثوكيديديس أن أهمية الكتب التاريخية متوقفة على دقة المعلومات وصحتها أكثر مما هي متوقفة على العرض الجذاب. وانتقد سرعة الناس إلى التصديق وعدم محاولتهم التمييز بين السقيم وغير السقيم، ولذلك كان يُعنى عناية فائقة بنقد حقائقه فيقول: "إنني ما وصفت شيئًا رأيته أو سمعته ولم أحققه بكل دقة وعناية". 

وآخر المؤرخين الإغريق الكبار هو بوليبيوس (نحو 204-122 ق.م)، وكان نظير ثوكيديديس في تحرِّي الدقة العلمية، ولو أن بعض الباحثين يرون أن بوليبيوس كان أقوى من ثوكيديديس في النزعة العلمية. وكان بوليبيوس نافذ الرأي في الحكم على السياسات، ودارسًا متعمقًا للأحداث والشخصيات. والتاريخ عنده له هدف مادي، ويحتم على كاتبه توخي الدقة العلمية قدر الطاقة.

الرومان وكتابة التاريخ

يقرر بعض العلماء أن الرومان لم يضيفوا للأدب التاريخي إضافات مبتكرة، بل اتجهوا في العناية بالتاريخ مذهب الإغريق، واتخذوا من الكُتاب الإغريق أمثلة وقدوة لهم في سائر نواحي الثقافة ومختلف فنون الأدب.

وقد ظهر بين الرومان مؤرخون لهم مكانتهم، ولكنهم لم يبلغوا مستوى ثوكيديديس أو بوليبيوس في تحري الدقة. ولم يستطع مجاراة خير المؤرخين الإغريق أسلوبًا سوى المؤرخيْن تيتوس ليفيوس (59 ق.م - 17م)، وتاكيتوس (55-120م).

ولقد كانت حياة ليفيوس وصلة بين عهدي الجمهورية والإمبراطورية الرومانية. وكان ليفيوس هو مبتكر فكرة كتابة تاريخ روما منذ نشأتها الأولى. وقد تغنى ليفيوس في أسلوب يحاكي أسلوب خطباء الإغريق بمفاخر الجمهورية الرومانية، ودبج قصة فتوحها، وناشد أبناءها أن يحتفظوا بقوتها وحدودها.

أما تاكيتوس، فهو آخر كبار المؤرخين من الرومان، وأشهرهم على الإطلاق من حيث اللغة والبيان. عُرف بقدرته الفائقة في تصوير الشخصيات، وغلبت عليه مراعاة الدقة في تحري ما يروي من الأحداث. وأشهر كتبه هي "الحوليات".

التاريخ في أوروبا العصور الوسطى

فتح القديس أوغسطين للتاريخ آفاقًا فسيحة، إذ سمح للفكر أن يرسل نظرة إجمالية إلى مجموعة  التواريخ الموجودة وإيجاد تفسير لها، فالمسيحية -كما يرى- ترشد معتنقها إلى تصور تاريخي للكون، يبدأ بالخالق كما جاء في التوراة، وينتهي بالدينونة العامة أي يوم الحشر.

كتابة التاريخ في العصور الوسطى

ونلاحظ على أي تاريخ كُتب على النمط المسيحي أنه يتميز بصفة العموم، فهو تاريخ عام شامل، وهو أيضًا قدري، للإله فيه قوة مسيطرة توجه الناس فيما يصنعون من أحداث.

وقد اتسمت كتابة التاريخ في العصور الوسطى بإهمال الدور البشري فيه، لذا لم يكن ثمة مجال لنقد أو تحليل. فلم يتبع المؤرخون المسيحيون أساليب ثوكيديديس وبوليبيوس في التحقق والتثبت؛ لأن اتخاذ الموقف الناقد لما ورد في التوراة وسلوك مسلك هكتايوس بإزاء الأساطير اليونانية كان يُعد خروجًا على العقيدة.

والحق أن مؤرخي العصور الوسطى كانوا أميل إلى سرعة الاعتقاد والتصديق منهم إلى التحري والتدقيق في قبول الأخبار ورواية الأحداث. وعلى العموم، فقد عرفت أوروبا العصور الوسطى الحوليات والتأريخ أو المدونات ثم التراجم التاريخية.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة
بقلم عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
بقلم عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
بقلم عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن