في عالم كرة القدم، قليلون هم اللاعبون الذين يتركون بصمة تتجاوز حدود الملعب، وقليلون أكثر مَن يضحون بمجدهم الشخصي من أجل قضية وطنية. رشيد مخلوفي، أحد أعظم لاعبي كرة القدم الجزائريين، يُعد رمزًا خالدًا ليس فقط بفضل مهاراته الرياضية، ولكن أيضًا بشجاعته وتفانيه في سبيل حرية بلاده.
بداية المجد
وُلد رشيد مخلوفي في 12 أغسطس 1936 بمدينة سطيف الجزائرية. منذ صغره، برزت موهبته الكروية الفذة؛ ما أهَّله للانضمام إلى نادي سانت إتيان الفرنسي، أحد أبرز أندية الدوري الفرنسي. مع هذا الفريق، كتب مخلوفي صفحات من المجد في مسيرته الاحترافية. حصل على عدة ألقاب وكان من أبرز المهاجمين الذين أمتعوا الجماهير بلمساته الساحرة وأهدافه الحاسمة.
بحلول عام 1958، كان مخلوفي قد رسخ اسمه بصفته واحدًا من أفضل اللاعبين في أوروبا، وكانت كل التوقعات تشير إلى مشاركته في نهائيات كأس العالم مع المنتخب الفرنسي. لكن القدر كان يحمل له مسارًا آخر، مسارًا أكثر أهمية وعظمة.
قرار المصير.. ترك كأس العالم من أجل الوطن
في عام 1958، وبينما كان مخلوفي يعيش أوج مسيرته الكروية، قرَّر الانضمام إلى منتخب جبهة التحرير الوطني الجزائري (FLN)، وهو فريق شكَّله قادة الثورة الجزائرية للترويج لقضية استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي. لم يكن القرار سهلًا؛ فقد ترك وراءه مسيرة مهنية واعدة وإمكانية تمثيل فرنسا في كأس العالم، وهو حلم يراود كل لاعب كرة قدم.
غادر رشيد مخلوفي فرنسا سرًّا مع مجموعة من اللاعبين الجزائريين المحترفين الذين انضموا للمنتخب الثوري، مُعرضين أنفسهم لعقوبات رياضية وقانونية. كان الهدف من هذا المنتخب هو لفت أنظار العالم إلى كفاح الشعب الجزائري من أجل استقلاله.
نضال من نوع آخر
لعب منتخب جبهة التحرير الوطني مباريات ودية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك دول في آسيا وإفريقيا، لنقل رسالة الثورة الجزائرية عبر كرة القدم. كان مخلوفي ورفاقه يقدِّمون عروضًا مبهرة على أرض الملعب؛ ما جعل الجماهير تتعاطف مع قضيتهم. وعلى الرغم من أنهم لم يشاركوا في أي بطولة رسمية، لكن رسالتهم وصلت إلى كل زاوية من زوايا العالم.
العودة إلى المجد بعد الاستقلال
بعد استقلال الجزائر عام 1962، عاد مخلوفي إلى عالم كرة القدم الاحترافية، فلعب مجددًا لنادي سانت إتيان، وأسهم في إحراز مزيد من الألقاب. لكنه لم يكتف بذلك، بل عمل على تطوير كرة القدم الجزائرية، وشغل مناصب إدارية وفنية في الاتحاد الجزائري لكرة القدم. كان هدفه هو بناء جيل جديد من اللاعبين لخدمة وطنه.
إرث خالد
توفي الأسطورة رشيد مخلوفي في 2024 عن عمر يناهز 88 عامًا، بعد أن ترك إرثًا خالدًا، فهو ليس مجرد لاعب كرة قدم؛ إنه رمز للتضحية والوطنية. قراره بترك كأس العالم، وهو الحلم الذي يطمح إليه كل لاعب، من أجل حرية الجزائر، يظهر شجاعة نادرة وحبًّا عظيمًا للوطن. قصته تُلهم أجيالًا من الرياضيين وغيرهم لتقديم الأغلى في سبيل قضاياهم العادلة.
في النهاية، يمكن القول إن مخلوفي لم يترك المجد، بل أعاد تعريفه. المجد له لم يكن عدد الأهداف أو البطولات، بل الحرية والاستقلال لوطنه. وهذا ما جعله خالدًا في ذاكرة الجزائر والعالم.
مقال رائع صديقي محمد زيان
مشكور هذا من ذوقك الراقي.
لمسة في الذاكرة الكروية المنسية الكرة .... ليست دائما للكرة .إضافة ملهمة أستاذ محمد .
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.