في أحد أعمق تأملاته، يقدم الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (Francis Bacon)، أحد رواد الفكر الحديث، خريطة طريق للتعامل مع أكثر التحديات إنسانية: كيف ننتصر على طبائعنا؟ في مقاله الشهير (Of Nature in Men) (عن الطبيعة في الإنسان)، يغوص بيكون في أعماق الطبيعة البشرية، لا ليحكم عليها، بل ليفهمها ويقدم إستراتيجيات عملية لترويضها وتوجيهها.
هذا المقال ليس ترجمة إنما هو قراءة تحليلية لحكمة بيكون الخالدة التي تكشف لنا أن الانتصار على الذات ليس معركة قوة، بل هو فن وعلم يعتمد على العادة، التدريج، والوعي العميق بمكامن ضعفنا وقوتنا.
ترويض الطبيعة البشرية العادة أقوى من القوة
غالبًا ما تكون الطبيعة مخفية، وأحيانًا يتم التغلب عليها، ونادرًا ما تنطفئ. فاستخدام القوة يجعل الطبيعة البشرية أكثر عنفًا في المقابل، والعقيدة والمناقشة يروضان الطبيعة البشرية وتصبح أكثر استجابة، لكن العادة فقط هي التي تغير الطبيعة وتخضعها.
إستراتيجيات التدريب بين السهولة والصعوبة
ومن يسعى للانتصار على طبيعته فلا يكلف نفسه بمهام كبيرة جدًا ولا صغيرة جدًا؛ لأن الأولى ستجعله مكتئبًا بسبب الإخفاقات المتكررة؛ والثانية ستجعله مبتدئًا صغيرًا، على الرغم من أنه غالبًا ما يكون متقدمًا، في الحالة الأولى دعه يتدرب بواسطة أدوات مساعدة، كما يستخدم السباحون المبتدئون المثانات (العوامات) أو القصب، ولكن بعد مدة دعه يتدرب بعناصر شاقة، كما يفعل الراقصون مع الأحذية السميكة؛ لأنه يولِّد كمالًا كبيرًا.

فن التغيير بين التدريج والثورة المفاجئة
إذا كانت الممارسة أصعب من الاستخدام أي الاستجابة التلقائية، حيث تكون الطبيعة حينئذ قوية، فإن الانتصار يكون صعبًا، فيجب أن تُؤخذ بالتدريج، أولًا: إيقاف الطبيعة في الوقت المناسب؛ مثل الذي يقول أكثر من أربعة وعشرين حرفًا عندما يكون غاضبًا ثم يقلل العد حتى يهدأ، ومثل الشخص الذي يدمن الخمر، ينتقل من الشرب في الولائم إلى مجرد مشروب على مائدة الطعام إلى أن يتوقف تمامًا. ولكن إذا تحلى المرء بالشجاعة والعزم على تحرير نفسه فورًا، فهذا هو الأفضل.
وليس هناك خطأ في القاعدة القديمة، وهي ثني الطبيعة كالعصا إلى أقصى النقيض، لتصحيحها حتى تستقيم؛ على أن لا يكون النقيض رذيلة أيضًا. ولا يفرض المرء على نفسه عادة باستمرار دائم، بل يجب أن يكون مصحوبًا باستراحة؛ فكلاهما يعزز البداية الجديدة. وإذا كان الإنسان غير المؤهل يمارسها دائمًا، فسوف يمارس أخطاءه بقدر ما يمارس قدراته ومهاراته، فتثبت عنده ولا يستطيع التفرقة بينهما؛ وليس هناك وسيلة لمنع ذلك سوى بفواصل زمنية مناسبة.

خطر الثقة الزائفة وعودة الطبيعة الدفينة
لكن يجب للرجل ألا يثق في انتصاره على طبيعته كثيرًا؛ فالطبيعة تُدفن وقتًا طويلًا، ثم تستيقظ في الوقت المناسب أو عند وجود الإغراء.
كما كان الحال مع آنسة تحوَّلت من قطة إلى امرأة، كانت تجلس بحشمة على طرف المائدة، حتى ركض فأر أمامها فقفزت عليه دون وعي. لذلك على الرجل إما أن يتجنب الموقف أو المناسبة التي يضعف أمامها؛ أو أن يُكرِّس نفسه ويتعرض لها كثيرًا، حتى يصبح غير متأثر بها.
معرفة الذات والتوافق مع المهنة
تُدرَك طبيعة الرجل بشكل أفضل في الخلوة، لأنه لا يوجد تصنُّع؛ وفي الغضب، لأنه يخرج الرجل عن مبادئه وعن قناع التهذيب، وفي حالة تجربة جديدة؛ لأن العادة تتركه وتظهر طبيعته. لذلك هم رجال سعداء من تتوافق طبيعتهم مع مهنهم، وإلا فقد يقولون: Multum incola fuit anima mea، وهى جملة لاتينية، ترجمتها: «لقد أقامت نفسي طويلًا مع الذين لا يريدون السلام».
إشارة إلى الذين لا تتوافق طبيعتهم مع مهنهم، وإن كان الرجل يُجبِر نفسه على فعل شيء خارج عن طبيعته فليحدد له ساعات لفعله. ولكن إن كان ذلك الفعل موافقًا لطبيعته، فليس بحاجة إلى تخصيص ساعات محددة؛ لأن أفكاره ستتجه إليه من تلقاء نفسها. وطبيعة الإنسان إما أن تتجه نحو الأعشاب، أي الرذائل، أو نحو الحشائش، أي الصفات الحميدة؛ لذا فليسقِ واحدة وينميها، وليُدمِّر الأخرى.
يقدم فرانسيس بيكون خلاصة حكمته في فن هندسة الذات. فبست إستراتيجيات رئيسية، يرسم لنا طريقًا واضحًا للتعامل مع طبائعنا.

أولًا: يؤكد أن الطبيعة لا تُقهر بالقوة بل تُروَّض بالعقل والعادة.
ثانيًا: يدعو إلى السير خطوة بخطوة في عملية الإصلاح.
ثالثًا: يوصي بأخذ أوقات راحة لتجديد العزم.
رابعًا: يعترف بقوة التغيير المفاجئ إذا امتلك الشخص العزيمة.
خامسًا: يحذر من الانخداع بالانتصارات الأولية، فالطبيعة قد تعود للظهور عند أول إغراء.
وأخيرًا، ينصح بالتركيز على تنمية الفضائل وتجفيف منابع الرذائل. إن حكمة بيكون، على الرغم من مرور قرون عليها، تظل دليلًا عمليًا لكل من يسعى لفهم نفسه والارتقاء بها، مذكرة إيانا بأن أعظم انتصار هو الانتصار على الذات.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.