تحليل قصة الرأس المفقود للكاتب أسامة لبيب

 يعد فن القصة القصيرة من أمتع فنون الكتابة الأدبية، وتكتسب هذه القصة أو ذاك أهميتها برصدها لمشهد واقعي كان أو خيالي، ولا سيما عند طرحها لقضية ما أو إشكالية يمر بها المجتمع المحيط بالكاتب، وهنا قصة "الرأس المفقود" للقاص أسامة لبيب، والمنشورة بالعدد الثاني 2019 من مجلة أوراق ثقافة الصادرة عن إقليم شرق الدلتا الثقافي، ص60، تطرح لانتشار ظاهرة نبش القبور وسرقة رؤوس الأموات للدرجة التي تحولت إلى تجارة رائجة، للدرجة وصل فيها سعر الرأس الوحدة إلى ألف وخمسمئة جنيه!!

اقرأ أيضًا سيميائية الزمان في روايات أحمد مراد/ دراسة تحليلية 

أبطال القصة

          يمكننا تقسيم أبطال قصة «الرأس المفقود» إلى جزأين، الجزء الأول الأبطال من الأحياء: «عطوة شرنوبي ابن المعلم، الشيخ إمام الزاوية، عدد من صبيان المعلم شرنوبي، زوج سكينة بائعة الجرير، الأستاذ عوض الله مدرس التاريخ، فقراء الحي، التُربي»؛ أما الجزء الثاني الأبطال من الأموات: «المعلم شرنوبي الشهير بالكيفيجي تاجر الكيف الأول ومتعهده الرسمي في الحي، سكينة بائعة الجرير».

نعم عزيزي القارئ، لا تتعجب فالأموات شاركوا الأحياء بطولة هذه القصة في الأحلام ورؤيتهم في المنام، بل وتشاجرهم مع زويهم حتى يبحثوا عن رؤوسهم المقطوعة، فهناك لصوص سرقوها وأضحوا جثثًا بلا رؤوس، فالمعلم شرنوبي يتشاجر مع ابنه عطوة ويسبه كما كان يفعل في حياته أكثر من مرة ويعايره «بأنه خنثى لا يفعل كالرجال، كيف تسكت عن رأس أبيك أيها البغل، رأس أبيك أيها البغل العاق، صرت مسخرة بين الموتى، كلما سرت بينهم بلا رأس يتغامزون ليتني كنت أخرجت من ظهري امرأة يطأها الغريب».

وكما فعل شرنوبي مع ابنه، فعلت سكينة بائعة الجرير مع زوجها، ولكن كان سعيدًا بأن رأسها قطعت، ورد عليها في المنام قائلًا: «بورك من قطع رأس الحية»، ولكنه لم يهتم بالبحث عن اللص الذي قطع رأسها كما فعل «عطوة» في البحث عن من قطع رأس أبيه «شرنوبي»، واكتفى بأن أشاع في الحي أن سكينة هي الأخرى أضحت بلا رأس، ولعل الله أنقذ الموتى من لسانها.

رغم أن سكينة قذفت زوجها بفردة نعلها -كعاتها- وهي تزجره: «قم ابحث عن رأسي أيها القواد».

وكان الهدف الاقتصادي من وراء قطع رؤوس جميع الموتى المدفونين في جبانة الحي هو طحنها وعجنها بمادة الهيروين فأكسبتها جدة وروعة، فأضحى مادة فعالة توزن بالذهب في هذه الصناعة الجهنمية؛ فالمكان بتلك القصة يعد البطل الأول فيها، فهو حي من المتعاطين أو أرباب الكيف، وجميعهم يدينون بالفضل للمعلم شرنوبي الذي حقق اشتراكية الكيف، حين أعلن أن الكف حق للجميع، من يملك ومن لا يملك، فإذا سأله الناس كيف لمن لا يملك، كان يقول: فنظرة إلى ميسرة. فالمعلم الكيفيجي كان مكيف أهالي حية حيا وميتًا.

فلم يجد القاص مناصًا من الكتابة بكونها وسيلته المثلي للبوح من جهة، وأداته الفنية لإعادة إنتاج الواقع المفجع والعمل على صياغته من منظور الذات الساردة، حيث يتداخل الواقع بالخيال، وتمتزج ذات السارد بالحدث المأساوي، وبه تتشكل الرؤية السردية عند المبدع لتنكشف علاقته بذاته من جديد، وبعالم الكيف والمخدرات الذي يحيط به من كل جانب.

فكما أدخل القاص شخصيات من الأموات وأضفى عليها حركية، وبعثها من جديد حينما أدخلها عالم الأحياء، فهي تخرج من قبورها وتذهب إلى بيوت ذويها ثم تعود لقبورها «وجد أبيه شرنوبي، يطرق عليه باب الدار»، أو أموات تتحاور فيما بينها «صرت مسخرة بين الموتى، كلما سرت بينهم بلا رأس يتغامزون».

اقرأ أيضًا تعرف إلى الكتابة الفنية المختلفة 

الجرائم والمجرمون

تتعرض تلك القصة إلى جرائم عدة كنبش القبور وسرقة جثث الموتى أو أجزاء منها وبيعها بأسعار مرتفعة، والاتجار بالمخدرات وأصناف الكيف المختلفة، ويٌسجل لعلماء النفس الإيطاليين إرساء المفهوم المعاصر لعلم النفس الجنائي حول أساس جنوح البشر إلى الجريمة بمنزلة أن الإجرام هو وليد الكيان الخسيس للنفس البشرية حينما يطغى على الكيان السامي فيها.

وينقسم المجرمون إلى ثلاثة أنواع، وهي: المجرمون منذ الولادة الذين امتلكوا طبع الإجرام، والمجرمونَ الذينَ مروا بتجارب وظروف عنيفة دفعتهم للتبدل وامتلاك ميول إجرامية، والمجرمون الذين يعانون أمراضًا نفسية عقلية تدفعهم للجرائم دون إرادة؛ وفي اعتقادي الشخصي وتحليلي لشخصيات حي المعلم "شرنوبي" وابنه المعلم "عطوة" في قصة «الرأس المفقود»، يجتمع فيهم أنواع وأقسام المجرمين الثلاثة، فهم فقراء ومدمنون، يعيش كثيرون منهم تحت خط الفقر، ويعيشون حياة صعبة، ويوجد جزء منهم يعمل في تعبئة وتصنيع وتوزيع المواد المخدرة؛ ونظر علم النفس الجنائي إلى الجرائم على أنها نتاج الدوافع النفسية غير السوية.

اقرأ أيضًا الفعل اللغوي بين الجملة والنص 

الأبعاد النفسية والاجتماعية والتاريخية للشخصيات

وتنكشف الأبعاد النفسية والاجتماعية بل والتاريخية لأفعال شخصيات قصة «الرأس المفقود» للقاص «أسامة لبيب» مما قال مدرس التاريخ الأستاذ عوض الله: «إن ما يحدث في حيينا المنكوب ليس جديدًا علينا، فقد حدث أبشع منه إبان الشدة المستنصرية، أكلت الناس القطط والكلاب حتى اختفت من الأسواق والحارات، فأكلوا بعدها الجيفة والميتات، فلما نفذت راحوا يأكلون بعضهم بعضًا، وكان يحتالون على السابلة عبر خطاطيف يرسلونها من فوق الأسطح، فيصطادوا بها المارة في الشارع.

ووصل الأمر أن المرأة كانت تتآمر مع زوجها فيذبحان ولدهما ثم يأكلانه"؛ ومن ثم عُد المكان في القصة مكونًا بنائيًّا مهمًّا في تشكيل الصورة الرمزية بكل عناصرها وتجلياتها وأبعادها الحضارية والنفسية والاجتماعية، ويعد عاملًا محوريًّا في بناء الدلالات المأساوية للأحداث، وتدمير المكان بسبب الجهل والفقر والمرض، وانهيار القيم الإنسانية بسبب الكيف والإدمان؛ يقوم علم النفس الجنائي بالاهتمام بدراسة المنظور الاستبياني لبعض الظواهر السلوكية الإجرامية والشاذة لاكتشاف مدى شيوع السلوك وانتشاره في المجتمع.

سمات النص القصصي

يكتسب النص القصصي الدهشة والانبهار بالمفارقة كخاصية جمالية، فهي تفضح العيوب المجتمعية مبرزة أوجه التناقضات الممكنة بين الأحياء وزويهم من الأموات، وبين تجار المخدرات والفقراء، ومن ثم فهي تقنية أسلوبية تتجاوز حدود المنطق والألفة لتتفتح على كل ما هو غريب ومدهش، فرأس المعلم شرنوبي وهو حي كانت توزع الكيف على الجميع من يملك ومن لا يملك المال لدفع ثمنه، والرأس نفسها قطعها وفصلها عن جسده بمجرد أن دخل قبره وتم طحنها وإضافتها للبودرة المخدرة لزيادة تركيز المادة الفعالة فيها؛ ولكن عطوة ابنه حزن وغضب على فقد أبيه لرأسه.

على عكس ذلك كان زوج سكينة بائعة الجرجير سعيدًا سعادة بالغة لقطع رأسها؛ لأن لسانها كان طويلًا وهي ميتة كما كانت حية، حيث قال لها: «بورك من قطع رأس الحية». وظل السارد يعلو بمستوى المفارقة أكثر لدرجة أن «أوصى أحد المساكين أبناءه وهو يحتضر، أن يبيعوا رأسه عندما يوافيه الأجل، ويستعينوا بثمنها على مشقات الحياة، وحذا كثيرون حذوه، وقالوا نفعلها على حياة أعيينا، ونبذلها بطيب نفس، ما دمنا سنفقدها بكل الأحوال؛ وأصبحت جبانة الحي كلها جثثًا بلا رؤوس، وهياكل بلا جماجم...)؛ إن المفارقة هنا تتلون بلون المأساة والتآسي، وفي النهاية من الظلم الذي واقع على أناس هذا الحي من الفقراء أن «أكلوا لحمه حيًّا، وطحنوا عظامه ميتًا»!!. 

كاتب، باحث، محاضر، مهندس زراعي، قاص، ناقد أدبي، صانع محتوى تليفزيوني على العديد من تطبيقات السيوشيال ميديا.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

سبتمبر 6, 2023, 7:05 ص

أبدعت، تحليل رائع

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
نوفمبر 30, 2023, 1:12 م - جهاد عبدالرقيب علي
نوفمبر 30, 2023, 9:41 ص - أسماء خشبة
نوفمبر 30, 2023, 9:14 ص - حسن بوزناري
نوفمبر 30, 2023, 6:01 ص - جهاد عبدالرقيب علي
نوفمبر 28, 2023, 7:07 ص - ظافر أحمد أحمد
نوفمبر 28, 2023, 6:48 ص - ظافر أحمد أحمد
نوفمبر 28, 2023, 5:34 ص - محمد سمير سيد علي
نوفمبر 27, 2023, 10:49 ص - أسماء خشبة
نوفمبر 27, 2023, 9:50 ص - محمد عربي ابوشوشة
نوفمبر 24, 2023, 9:55 ص - زبيدة محمد علي شعب
نوفمبر 24, 2023, 9:03 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 23, 2023, 5:14 م - عبدالخالق كلاليب
نوفمبر 23, 2023, 3:18 م - مصطفى محفوظ محمد رشوان
نوفمبر 23, 2023, 11:13 ص - سفيان صابر الشاوش
نوفمبر 23, 2023, 10:15 ص - سومر محمد زرقا
نوفمبر 23, 2023, 9:11 ص - حسن المكاوي
نوفمبر 22, 2023, 1:01 م - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 22, 2023, 9:13 ص - حسن المكاوي
نوفمبر 21, 2023, 5:02 م - أحمد عبد المعبود البوهي
نوفمبر 21, 2023, 6:16 ص - هبه عبد الرحمن سعيد
نوفمبر 19, 2023, 12:12 م - التجاني حمد احمد محمد
نوفمبر 18, 2023, 10:59 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 16, 2023, 9:00 ص - زبيدة محمد علي شعب
نوفمبر 14, 2023, 4:49 م - هيثم عبدالكريم عبدالغني هيكل
نوفمبر 14, 2023, 2:00 م - سالمة يوسفي
نوفمبر 14, 2023, 7:57 ص - سيرين غازي بدير
نوفمبر 14, 2023, 6:19 ص - غزلان نعناع
نوفمبر 13, 2023, 7:38 ص - غزلان نعناع
نوفمبر 13, 2023, 6:59 ص - رايا بهاء الدين البيك
نوفمبر 12, 2023, 8:39 ص - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 11, 2023, 2:17 م - منال خليل
نوفمبر 11, 2023, 7:49 ص - رايا بهاء الدين البيك
نوفمبر 10, 2023, 12:05 م - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 10, 2023, 9:02 ص - هيثم عبدالكريم عبدالغني هيكل
نوفمبر 9, 2023, 9:49 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 8, 2023, 12:36 م - جوَّك آداب
نوفمبر 8, 2023, 9:53 ص - جوَّك آداب
نوفمبر 7, 2023, 9:46 ص - هاجر فايز سعيد
نوفمبر 7, 2023, 9:35 ص - غزلان نعناع
نوفمبر 7, 2023, 5:10 ص - محمد محمد صالح عجيلي
نوفمبر 6, 2023, 11:03 ص - بدر سالم
نوفمبر 5, 2023, 11:23 ص - عبدالرحمن خليل النمر
نوفمبر 5, 2023, 10:20 ص - خوله كامل عبدالله الكردي
نوفمبر 4, 2023, 8:32 م - حنين عبد السلام حجازي
نوفمبر 4, 2023, 3:28 م - ناصر مصطفى جميل
نوفمبر 4, 2023, 2:19 م - بدر سالم
نوفمبر 4, 2023, 10:57 ص - هاجر فايز سعيد
نوفمبر 3, 2023, 7:42 ص - رايا بهاء الدين البيك
نوفمبر 3, 2023, 5:45 ص - ياسر الجزائري
نوفمبر 2, 2023, 9:19 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
نوفمبر 2, 2023, 9:14 ص - إياد عبدالله علي احمد
نوفمبر 1, 2023, 3:12 م - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
نوفمبر 1, 2023, 11:39 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
نوفمبر 1, 2023, 8:10 ص - رايا بهاء الدين البيك
أكتوبر 31, 2023, 7:16 م - فرح راجي
أكتوبر 31, 2023, 1:59 م - أسماء خشبة
أكتوبر 31, 2023, 1:37 م - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 31, 2023, 9:17 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 30, 2023, 4:27 م - نجوى علي هني
أكتوبر 30, 2023, 10:35 ص - أسامة جاد الرب محمود
أكتوبر 30, 2023, 9:30 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 30, 2023, 9:07 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 30, 2023, 5:55 ص - غزلان نعناع
أكتوبر 29, 2023, 8:29 م - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 29, 2023, 3:40 م - عذراء الليل
أكتوبر 29, 2023, 10:48 ص - جوَّك آداب
أكتوبر 29, 2023, 10:29 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 29, 2023, 9:50 ص - منى محمد على
أكتوبر 29, 2023, 5:38 ص - نجوى علي هني
أكتوبر 29, 2023, 5:10 ص - إياد عبدالله علي احمد
أكتوبر 28, 2023, 3:04 م - عبير عبد القادر مرشحة
أكتوبر 28, 2023, 2:55 م - الان داود
أكتوبر 28, 2023, 11:59 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 28, 2023, 11:26 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 28, 2023, 9:13 ص - جوَّك آداب
أكتوبر 28, 2023, 8:57 ص - احمد صالح احمد مقبل الصيادي
أكتوبر 28, 2023, 8:06 ص - اسماعيل السيد
أكتوبر 28, 2023, 7:09 ص - اسماعيل السيد
أكتوبر 27, 2023, 12:39 م - خالد محمد شعبان
أكتوبر 27, 2023, 6:42 ص - خولة محمد فاضل
أكتوبر 26, 2023, 6:46 م - إياد عبدالله علي احمد
أكتوبر 26, 2023, 4:56 م - إياد عبدالله علي احمد
أكتوبر 26, 2023, 3:00 م - إياد عبدالله علي احمد
أكتوبر 26, 2023, 11:17 ص - هاجر فايز سعيد
أكتوبر 26, 2023, 9:39 ص - إياد عبدالله علي احمد
أكتوبر 26, 2023, 9:13 ص - عيسى رضوان حمود
أكتوبر 26, 2023, 8:53 ص - عبدالحليم ماهاما دادولا عيدالرحمن
نبذة عن الكاتب

كاتب، باحث، محاضر، مهندس زراعي، قاص، ناقد أدبي، صانع محتوى تليفزيوني على العديد من تطبيقات السيوشيال ميديا.