كنت شغوفًا بدراسة النفس منذ أن كنت في سن الرابعة عشرة، وقرأت في الإنترنت عنها كثيرًا، لكن اكتشفتُ شيئًا مهمًّا في نفس الإنسان، وهو أنه ينجذب إلى كل ما يشعره بالسعادة. آنذاك أوقفت بحثي في الإنترنت، ولجأت إلى عقول الناس، فاتخذتُ السعادة مرجعية لكل شخص أراه.
تحليل الشخصية
على الرغْم أني غفلت عن البحث عن معنى السعادة؛ لأنني كنت طوال الوقت أقيس السعادة ببريق العينين، والابتسامة العريضة، وحركة الحاجبين؛ أي إذا تحركت كل عضلات الوجه من الأسفل إلى الأعلى، أدركتُ أن ذلك الشخص سعيد، وإذا كان العكس فأدركتُ أنه حزين، إلى آخره. مع الوقت، اكتشفت أن هذا التحليل يسمى علم الفراسة، وهو مهم في علم النفس، ويوجد كثير مما تعلمته بسبب أنني وضعت السعادة مقياسًا للإنسان؛ لأنه هو المسعى الحقيقي له.
تطورت مهارتي في تحليل الشخصيات، وأصبحتُ قادرًا على تحليل حركة البؤبؤ، وطريقة الكلام، ونوع الكلام، ونبرة الصوت، وطريقة الوقوف، ومكان الوقوف، وكيفية الجلوس، وطريقة الأكل.. كثيرٌ من الأشياء التي قد تبدو بسيطة، ولكني كنت أهتم بها، حتى طريقة اللباس، بل إنني تمكنت من دراسة الصمت ولحظة الصمت. ربما لو لم أبالغ، لم يكن همي سوى الشخص ونشاطه في الحياة، فقد كنتُ تقريبًا أتعرفُ على نفسه عبر سلوكه وردود أفعاله الواعية وغير الواعية.
اكتشفتُ في مرحلة متقدمة أن المرض النفسي معدٍ؛ لأنني وجدت نفسي حقًّا أُقلِّدُ كل شخص أدرسه. ولكن عندما وعيتُ بذلك، بدأتُ أعالج العدوى عن طريق الوقاية منها، أي الابتعاد عن المصابين بها والبحث عن آخرين. لكنني كنت أذكر نفسي كل دقيقة بأنني أدرس فقط. ولكن بعد ما أصبحت أتحكم في العدوى، أصبح الأمر أصعب نوعًا ما؛ لأنني لم أعد أنغمس في نفس الآخر بعمق، وهذا بدوره كان يمنعني من فهم النفس، فأدركت أنه لا بأس في أن تصيبني العدوى ما دمتُ قد فهمت كثيرًا من الأشياء الخاصة والمرتبطة بالإنسان.
حسنًا، لنترك موضوع العدوى النفسية لِوقتٍ لاحق، أما الآن، فسأحدثكم عن الكيفية التي كنت أدرس بها النفس البشرية خلال دراستي في المرحلة الثانوية.
الفلسفة طريق لدراسة النفس البشرية
كما قلت لكم سابقًا، انطلقت من مرجعية السعادة، ولكنني كنت لا أثق بشيء أفكر فيه، فقط كنتُ أرى كل ما أفكر فيه مجرد فرضيات لا معنى لها. لذا، ما كان يستطيع إقناعي هو أن أرى تلك الفرضيات تتحقق في الواقع تلقائيًّا. لم أفكر كثيرًا، وقررت أن أترك الشخص المدروس يجرب من تلقاء نفسه وبإرادته.
حقًّا كنت أستهين بالنفس البشرية، وكنت أعتقد أنني أستطيع دراستها وفهمها بسهولة، لكن وجدتُ نفسي قد دخلتُ في بحر عميق ليس له مخرج. تعرفت خلال دراستي في الثانوية على مادة مهمة ساعدتني في الحرب التي قررت خوضها آنذاك، وهي مادة الفلسفة.
لم أكن أُدرك شيئًا عن الفلسفة سوى أنها تعني البحث عن الحكمة أو حب الحكمة. ولكن بعد ذلك، أصبحت ألاحظ الأستاذة كيف تشرح وكيف تتحدث، وفي الوقت نفسه كيف تستخدم يديها. راقبتُها جيدًا، وأردتُ فهم حركاتها اللاإرادية التي تقوم بها، حتى حركة حاجبيها التي كانت ترتفع من الأسفل إلى الأعلى.
كنت أعلم أن الإنسان عندما يقف أمام حشد كبير يشعر بالتوتر، وأن هذا التوتر يكون نتيجة لتوجيه عيون التلاميذ نحو عيني الأستاذ، لذلك يلجأ إلى تحريك يديه للفت انتباه الجميع نحوهما، وهذا السلوك يشعر الأستاذ بنوعٍ من الراحة، فيتكلم بسلاسة...
أما عن حركة الحاجبين التي كانت من الأسفل إلى الأعلى، فهي تعبير عن سعادة الأستاذة، لكونها تمكنت في الأقل من تفادي التوتر بترك أعين معظم التلاميذ خاضعة لحركة الأيادي.
كانت أيضًا -بعد أن تنتهي من الشرح- تجلس وتضع رجلًا على رجل، وذلك يشعرها كما لو كانت في بيتها، وهذا يعطيها نوعًا من الثقة في النفس. وكانت تحمل هاتفها في معظم الأحيان، وكنت أراقبها وألاحظ أنها في بعض الأحيان لا تشغله حتى، لكنها تدَّعي أنها فعلت ذلك لكي ترتاح نفسيًّا.
وإذا كنا نكتب شيئًا ورفع أحد رأسه ووضع قلمه، تصرخ وتقول: "لماذا لا تكتب؟"، وكان سلوكها كله منذ دخولها القسم محاولة لحل مشكلة توترها، ولكن على الرغْم من هذا التحليل، اكتشفت أنها ليست متوترة، وإنما هي معتادة على فعل ذلك منذ بدايتها في التدريس، وأصبحت هذه التصرفات من العادات اليومية لها.
بعد كل هذا، انتقلت من دراستها في مرحلة وجودها في القسم إلى مرحلة وجودها مع الأساتذة، ففوجئت أنها لا تحرك يديها، لكنها تحرك عنقها وهي تنصت وتبتسم طوال الوقت، وكانت تَشْرُد تارة وترفع رأسها تارة أخرى لترى عيني الأستاذ الآخر مندهشة، كأنها تريد أن تعبِّر عن اهتمامها بالموضوع، وأنها لم يسبق لها أن علمت ذلك. في حين أراها تتصنع ذلك، لأن عضلات وجهها لا تتحرك كلها، بل البعض منها فقط، والمعنى أن تتحرك عضلات الوجه كاملة، أي يكون الصدق في التعبير مهما كان هذا الشعور.
لنعد إلى الموضوع، راقبتها وهي تقف مع أكثر من أستاذ، وأكثر من مرة أجدها تعيد نفس التصرف، استغربت قليلًا واندَهشت من ردود أفعالها المتشابهة مع الأساتذة، وقمت متسائلًا: لماذا تفعل هذا وهي ليست مجبرة على ذلك؟ قد تكون مرتبطة بالعادة؟
خلال تحليل سلوك الأستاذة، توصلت إلى مفهومين مهمين: الأول العادة، والثاني الغاية. على الرغم من أن العادة سبقت الغاية في هذا النص، فإنه في الواقع يوجد العكس دائمًا، فالغاية هي التي تسبق العادة.
👍👍👍
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.