من يريد دراسة الحضارات أو الكتابة عنها مهما كان اختلافها وتنوعها، عليه أن يكتشف الأهمية الكبرى للكتابة عمومًا، والعربية خاصة، لأن تاريخ الحضارات مخزن في مجلدات الكتابة التي بدأ العصر في كتابتها.
وعندما ننتقل إلى الكتابة، باعتبارها وسيلة ثقافية خلقها العقل البشري لخدمة الإنسانية بواسطة تخزين عوامل الحضارة الإنسانية من الثقافة والتاريخ والعلوم المختلفة والفنون، فإننا ندفع تلقائيًّا إلى النظر في تاريخ هذه المهنة، من حيث نشأتها وأصلها وتطورها وموضوعاتها والأقوال التي سيقت بها، والهدف من ذلك هو رسم صورة واضحة لاكتناه سرها لتتمثل واضحة المعالم والأثر.
تاريخ الكتابة
تميز العرب بذاكرتهم النشطة التي حافظت على تراثهم الفكري والأدبي وتاريخهم العريق، إلا أن هذه الذاكرة لم تكن بمنأى عن النسيان مع مرور الزمن، فكان لا بد من وجود طريقة للتعويض عن ذلك، وهي الكتابة.
والكتابة هي إحدى خصائص الإنسان التي تميزه عن الحيوان، يصل إلى ما في الوعي، ويحمل أهدافه نحو بلد بعيد، فتُشبع الحاجات، ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين، وما كتبوه، فهي شريفة في جميع هذه الجوانب والفوائد.
فهي فن وعلم، وهي إلى ذلك عملية سهلة وحتمية تتطلب موهبة علمية وفهمًا وتكنولوجيا ودراية، وبدونها ستكون الصفحات عديمة الفائدة وغير مجدية، بل وقد تكون النتائج مخالفة لها ومضادة للهدف المنشود.
ولذلك فإن عملية الكتابة تنطوي على سمات لها أثر مهم في التكوين الثقافي، وعملية التحليل والتركيب هذه أكثر بكثير مما تتضمنه، بما في ذلك عملية النطق، وفي عملية الكتابة يدخل النشاط العقلي ممثلًا بالحوار بين القارئ والكاتب، وقد يكون الكاتب نفسه.
ومع تاريخ الكتابة، تكثر نصوص الكتب، لكن لم يتم تحديد الزمان والمكان الدقيقين لإنشائها، وقد اختلفت في ذلك أقوال، من قال إنه يعود إلى نبينا آدم عليه السلام، ومن يعتقد أنها توقفت، ومن ذكرها في الشعر الجاهلي للدلالة على وجودها في ذلك الوقت وما كان عند الناس من علم بها، ومن اقتنع بأنها نتاج صدر الإسلام.
فهي فن حضاري يدين لها البعيد والقريب، فهي مجموعة أمجاد الأمم وأخطائها، ومن خلالها يتطلع التاريخ من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل.
اقرأ أيضًا: ما مفهوم الكتابة؟ وما أهميتها؟
نشأة الكتابة
كانت الأبجدية المصرية مكونة من حروف ساكنة فقط، ومن عدد هائل من الإشارات. إن الأبجدية الفينيقية أسبق عهدًا، من الأبجدية المصرية، وقد تعلم المصريون منها كثيرًا. والفينيقيون أعطوا حروفهم الأبجدية أسماء الأشياء المادية، في لغتهم بكلمات تناسب الصوت اللغوي في أول الكلمة، وأسماء هذه الحروف هي: ألف، بيت، جمل، دالت، هيت، واو، زين، حيط، طيب، يد، كف، لامد، ميم، نون، سامخ، عين، في، صاد، قوف، روش، شين، تاو. ومن يعرف اللغة العربية أو العبرانية أو السيرانية، لا يجد صعوبة، في فهم تلك المعاني.
أصل الكتابة
تضاربت الآراء في أصل الكتابة عند العرب. ويذكر الجاحظ أن العرب كانوا أميين لا يكتبون وكل شيء لهم إنما هو بديهة وارتجال.
وفي القرآن الكريم وردت آيات تظهر معرفة العرب بالكتابة في الجاهلية، وابن فارس يقول إن أول من كتب الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها هو نبينا آدم عليه السلام قبل موته بثلاثمئة سنة.
ويقول ابن العبري إن أول من وضع أو ابتدع الكتابة هو شيت بن آدم.
وعن الشعبي أن أول من كتب بالعربية من العرب حرب بن أمية بن عبد شمس الذي تعلم من أهل الحيرة الذين تعلموا من أهل الأنبار.
وقيل إن أول من وضع الكتابة العربية أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت وكانوا كلهم ملوكًا، نزلوا مع عدنان بن أدد، وهم من طسم وجديس، وحكي أنهم وضعوا الكتب على أسمائها فلما وجدوا حروفًا في الألفاظ ليست في أسمائها، ألحقوها بهم وسموها الروادف.
ومن أدلة وجود الكتابة في العرب، ما في لغتهم من الألفاظ الموضوعة لآلات الكتابة والكتاب، ولو لم يعرفوها، لما وضعوا تلك الألفاظ لمعانيها.
وكانت أول كتابة عرفت في مصر هي الكتابة الهيروغليفية، وهذا الاسم مشتق من كلمتين إغريقتين (هيروس Hieros) بمعنى مقدس، و(جلوفي Gluphe) بمعنى نقش، وقد بُدئ في استخدامها نحو 3000 سنة ق.م.
وكان المصريون القدماء يكتبون الأعداد من واحد إلى تسعة بخطوط رأسية متكررة، بإشارات مختلفة لأرقام العشرات، ومضاعفات العشرات.
والكتابة كانت شائعة في الحواضر، ولا سيما في مكة، ورويت أخبار تدل على أن بعض الشعراء استخدمها بلاغًا شعريًّا لقومه.
ويذكر المسعودي في مروج الذهب، أن أول من كتب بالعربية، ووضع حروف المعجم، أ، ب، ت، هم بنو عبد ضخم من آرم بن نوح.
ويقول الشاعر الجاهلي المعروف امرؤ القيس (500 -545 م) في قصيدته عن الكتابة:
أتت حجيج بعدي عليها فأصبحت *** كخط زبور في مصاحف رهبان
فالخط والزبور والمصاحف من علامات الكتابة.
ويقول المرقش الأكبر (نحو 75 ق.هـ/ نحو 550 م):
الدار قفر والرسوم كما *** رقّش في ظهر الأديم قلم
ويقول الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد (525 -615):
والنقع يوم طراد الخيل يشهد لي *** والضرب والطعن والأقلام والكتب
ويقول الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد:
وخدّ كقرطاس الشآمي ومشفر *** كسبت اليماني قده ولم يجرد
أما حجج المستشرقين فتشير إلى أن المنقبين منهم عثروا على نقوش عربية شمالية ثمودية ولحيانية ونبطية كثيرة، منها:
1- نقشٌ مؤرخٌ سنة 106 من سقوط سلع، أي 210 للميلاد، وقد اكتشف في وادي المكتب في شبه جزيرة طور سيناء.
2- نقشٌ مؤرخٌ سنة 126 من سقوط سلع، أي سنة 230م، وقد اكتشف في وادي فران في شبه جزيرة طور سيناء.
3- نقشٌ مؤرخٌ مؤرخٌ سنة 148 من سقوط سلع، أي سنة 253 م.
4- نقشٌ مؤرخٌ سنة 162 من سقوط سلع أي سنة 267م، وقد اكتشف في الحجر (مدائن صالح).
وفي صدر الإسلام نقوش وكتابات تزيد قصة الكتابة العربية وضوحًا، ومنها نقش في القاهرة تاريخه 31 هـ، محفوظ في دار الآثار العربية.
كل النقوش والكتابات المكتشفة خالية من النقط، وهذا دليل على أن الكتابة العربية في أول نشأتها كانت غير منقوطة، وإنها استمرت خالية من النقط، لكن بعض الوثائق تظهر معرفة النقط كتلك الوثيقة البردية التي يرجع تاريخها إلى سنة 22 هـ مكتوبة بالعربية واليونانية.
اقرأ أيضًا: الكتابة وتحدياتها في المرحلة الإلكترونية.. معلومات لا تفوتك
تطور الكتابة
كان الإنسان البدائي إذا أراد أن يسجل شيئًا للتذكرة أو لنقل خبر، يلجأ إلى وسائل غير كتابية، كالحبال المعقدة التي يختلف معنى عقدها تبعًا للطول والغلظة واللون، فالحمراء تعني الحرب، والبيضاء تعني السلم، والسوداء تعني الموت، والصفراء تعني الذهب، ... إلخ.
ومع مرور الأجيال، تعم الإنسان الكتابة متدرجًا فيها من الأشكال البسيطة إلى المركبة مارًّا بالأطوار التالية:
1- الكتابة التصويرية أي استعمال الصور للتعبير عن الغاية المرجوة، فتتحول الأفكار إلى رسوم.
2- الكتابة التصويرية الرمزية هي رموز معنوية لا يمكن تصويرها.
3- الكتابة الصوتية المقطعية وتعني استخدام الصور أو العلامات والجمع بينها.
وبتطور العلامات التصويرية إلى علامات صوتية مقطعية، ابتدأت صناعة الكتابة الحقيقية أول مرة في تاريخ الإنسان، نحو 3500 سنة قبل الميلاد.
تطور الطباعة
كان المؤلف، قديمًا، يقضي شهور عدة في إخراج نسخ معدودة من كتابه، ويترتب على ذلك مشقة مضنية، كان لا بد من تحملها حتى ظهرت الطباعة وصارت النصوص تنقل بطريقة آلية، والطباعة غير النساخة.
والطباعة يسرت الحصول على أعداد كثيرة من النسخ في مدة قصيرة، وهي تعد من أهم الاكتشافات التي اهتدت إليها البشرية.
وإذا كانت النار من أسس الحضارة القديمة، فإن الطباعة من أركان الحضارة الحديثة.
والطباعة عرفت في الشرق قبل الغرب، ففي بابل عثر علماء الآثار على قالب ذي أحرف ناتئة ترقى إلى ألف سنة ق.م، كانت تتخذ لطبع الأوامر الرسمية، بـأن تجعل على الآجر الطري، ثم يطبخ فتصبح الحروف مطبوعة.
وكان لدير قزحيا في شمال لبنان الفضل في اقتناء أول مطبعة في الشام التي كانت تعتمد الحرف الكرشوني، وطبعت سفر المزامير في سنة 1610م بالعربية وبالسريانية.
والآلة الطابعة بالحروف العربية، أول ما عرفها العرب سنة 1706م في حلب على يد البطريرك أتناسيوس دباس، وتأخر ظهور المطبعة الثانية في سوريا حتى سنة 1855م، وظهرت مطبعة أخرى على يد حنا الروماني.
وقد حاول بلفنطي السرديني في سنة 1841م إنشاء مطبعة حجرية في حلب، وهناك مطبعة أخرى أنشأها عبد الله زاخر في دير مار يوحنا الصايغ سنة 1733م.
أما بيروت، فإنها لم تلم بالطباعة قبل أواسط القرن الثامن عشر سنة 1731م، فبمسعى الشيخ يونس نيقولا الجبيلي، أنشأ الروم الأرثوذكس مطبعة القديس جاورجيوس، ولم تشهد بيروت مطبعة أخرى إلى سنة 1834م.
أما في مصر، فلم تعهد الطباعة آلة وممارسة قبل حملة نابليون بونابرت سنة 1798م، فظلت دون مطبعة مصرية حتى سنة 1821م، والمطبعة التي جلبها الفرنسيون في حملتهم، كانت نواة مطبعة بولاق التي أنشأها محمد باشا.
وبين عام 1800 و1820م، أُدخل تحسين على المطبعة، واُخترعت المطبعة المعدنية، والمطبعة ذات الأسطوانات الدائرية.
هذا التطور في المطبعة بدأ في إنجلترا، والتحسينات وصلت إلى فرنسا سنة 1830م.
والثورة الحقيقية في عالم الطباعة بدت في الصحافة، ففي منتصف القرن العشرين، ضربت الصحافة البريطانية الأرقام القياسية، في توزيع الصحف.
والمطبعة، بدأت في ألمانيا سنة 1450م، ثم روما سنة 1464م، ولندن سنة 1467م، وفي سنة 1530م وصلت المطبعة إلى المكسيك عن طريق نائب الملك الإسباني مندوزا، لتصل في القرن السابع عشر إلى المشرق العربي.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.