يشهد العالم حاليًا ثورة في مجال الذكاء الاصطناعي، فقد شهدنا تطورًا متسارعًا في قدرات الآلات والبرامج على أداء مهام معقدة، كان يعتقد أن الإنسان وحده قادر عليها.
ولا شك أن هذه التقنية الحديثة ستؤثر في سوق العمل في المستقبل القريب على نحو كبير. فلم يعد استخدام الذكاء الاصطناعي رفاهية، بل ضرورة ملحة، فهو يسهل المهام الروتينية المملة، ويرفع مستوى الإنتاجية، سواء على الصعيد الشخصي أو المهني، بسرعة مذهلة.
وقد أصبح الذكاء الاصطناعي (AI) قوة دافعة للتقدم، تؤثر تأثيرات عميقة في مختلف مناحي الحياة، لا سيما سوق العمل. فهو يعزز الكفاءة والإنتاجية، لكنه في الوقت نفسه يثير مخاوف مشروعة بشأن إمكانية فقدان الوظائف، وتغير طبيعة العمل على نحو جذري. سنتناول في هذا العرض التأثيرات المتعددة للذكاء الاصطناعي في سوق العمل، بمناقشة جوانب رئيسة مترابطة.
سنبدأ بتعريف دقيق للذكاء الاصطناعي، وكيفية انتشاره السريع، مسلطين الضوء على بداياته وتاريخ ظهوره، والعقول العبقرية التي أسهمت في تطويره، والتحديات والفرص التي ستواجه الإنسان في مقابل الذكاء الاصطناعي.
اقرأ أيضًا: ما الذكاء الاصطناعي؟ وما استخداماته؟
الذكاء الاصطناعي
يُعرف الذكاء الاصطناعي أساسًا على أنه علم يهدف إلى جعل الآلات قادرة على القيام بالمهام التي تتطلب ذكاءً بشريًّا، فهو مجال في علم الحاسوب يسعى لتطوير أنظمة وبرامج تمكِّن الآلات من القيام بمهام تتطلب عادة تفكيرًا بشريًّا. مثل: التعلم، اتخاد القرارات، حل المشكلات، فهم اللغة. فالهدف هو تمكين الحواسيب من محاكاة وتطبيق عمليات تفكير البشر في معالجة المهام المعقدة على نحو مستقل أو شبه مستقل.
اقرأ أيضًا: مبادئ لاستخدام الذكاء الاصطناعي بمسؤولية في العمل
رحلة الذكاء الاصطناعي من دارثموت إلى المستقبل
إن الهدف الرئيس من الذكاء الاصطناعي هو تعزيز الذكاء البشري، ورغم أن هذا الهدف قائم لكن بعض الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي أرادوا تجاوز الذكاء البشري، لكن ظل هدفه ودوره الأساسي هو تعزيز القدرات البشرية ومساعدتها، وليس استبدالها. فالهدف الرئيس للذكاء الاصطناعي هو مساعدة الإنسان وتدعيم إمكاناته العقلية، وليس محاكاة الذكاء البشري على نحو كامل، كان هذا المراد منه في بادئ الأمر.
فالذكاء الاصطناعي يجب أن يكون وسيلة لتعزيز قدرات البشر وتحسين أدائهم، وليس محاولة التفوق عليهم. هذه النظرة الشاملة توضح جيدًا الدور الأساسي للذكاء الاصطناعي، وتنسجم مع الحاجة إلى الموازنة بين التقنيات الجديدة والمهارات الإنسانية في سوق العمل المستقبلي.
كان إبراز وتقديم الذكاء الاصطناعي أول مرة سنة 1956. ويعد مؤتمر دارتموث الذي عقد في ذلك العام اللحظة التي وُلد فيها الذكاء الاصطناعي، ما يمثل بداية مجال الذكاء الاصطناعي كتخصص منفصل. فناقش العلماء والباحثون في المؤتمر إمكانية إنشاء آلات ذكية. ووضع هذا الاجتماع الأساس لتطوير وتقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي.
واستُخدم المصطلح نفسه قبل عام 1956 أي في سنة 1950 على يد آلان تورنج في ورقته البحثية بعنوان الحوسبة والذكاء الاصطناعي، فقد درس مدى إمكانية قيام الآلات بالتفكير. في هذه الورقة البحثية صاغ تورنج أول مرة مصطلح الذكاء الاصطناعي وعرضه بوصفه مفهومًا نظريًّا وفلسفيًّا.
اقرأ أيضًا: الذكاء الاصطناعي لم يظهر فجأة في القرن الحالي.. حقائق مثيرة
مستقبل العمل في ظل هيمنة الذكاء الاصطناعي
توقعت عدد من الدراسات أن يحل الذكاء الاصطناعي محل بعض الوظائف التقليدية ذات المهام الروتينية البسيطة التي يمكن للآلات القيام بها، مثل الوظائف في قطاع التصنيع وخدمة العملاء.
ويتحدى الذكاء الاصطناعي أيضًا كثيرًا من الوظائف في قطاعات المحاسبة والقانون والطب. وهذا يتطلب إعادة تأهيل هؤلاء العاملين وتدريبهم في مهارات جديدة.
بصيغة أخرى يمكن القول إنه في ظل التقدم التكنولوجي السريع الذي يشهده العالم حاليًا، أصبح الذكاء الاصطناعي واحدًا من أبرز التقنيات المؤثرة في سوق العمل. وقد أسفرت كثير من الدراسات عن نتائج مهمة حول تأثير هذه التقنية في الوظائف المستقبلية. من بينها:
دراسة معهد أكسفورد للتقنية (2017) التي تنبأت باحتمالية أن الروبوتات والبرامج ستحل محل الإنسان بنسبة 47% في وظائف التصنيع مثل السيارات، كما هو الأمر في وظائف التنظيف والتخزين.
وأشار تقرير مكتب العمل الأمريكي (2018) إلى تهديد وظائف المحاسبة والقانون وخدمة العملاء عبر الهاتف. وهذا يتطلب إعادة تدريب العاملين في مهارات جديدة. لهذا يجب على الإنسان أن يحاول مواكبة الذكاء الاصطناعي وتطوره لجعله يخدم مصالحه ولا يؤثر في موقعه في سوق الشغل.
وهذا ما توقعته كثير من الدراسات الأمريكية التي يعوض فيها الإنسان بالآلة كما قلنا آنفًا مثلًا لوظائف تصنيعية قابلة للتعويض بالروبوتات، بما فيها تصنيع السيارات والملابس والآلات المنزلية والصحية.
وقد أظهرت دراسات أخرى كيف تهدد الروبوتات وظائف المكاتب مثل المحاسبة والقانون كما قلنا سابقًا، بسبب قدرتها على تحليل البيانات وإعداد التقارير. وتخلت كثير من المصارف عن وظائف الخدمة عبر الهاتف لمصلحة البرامج. كل هذا وما زال الذكاء الاصطناعي لم يبلغ أوج عطائه.
ومع ألّا بديل للإنسان لكن الواقع في سوق العمل أصبح الإنسان دون قيمة خصوصًا في المجال الصناعي، فما يستطيع الإنسان القيام به خلال أسبوع يمكن للذكاء الاصطناعي القيام به خلال 24 ساعة، دون عناء أو خسارة لليد العاملة الكثيرة، ويوفر نسبة معقولة من المال في مقابل الإنسان الذي يستهلك المال والطاقة والمواد الأساسية.
أصبح القرن الحادي والعشرين ملاذًا للذكاء الاصطناعي وهيمنته وتضاءل حجم الإنسان وأهميته على نحو كبير، ويمكن أن تحل الآلة محل الإنسان عاطفيًّا وعقليًّا وجسديًّا.
اقرأ أيضًا: كيف يمكن للطفل استخدام الذكاء الاصطناعي في حياته المدرسية؟
الذكاء الاصطناعي بوابة لآفاق وظيفية جديدة
يمكن توضيح الفرص الجديدة في مجالات مثل تصميم الخوارزميات، ووظائف الصيانة والدعم الفني للأنظمة الذكية، كذلك وظائف التدريب على بيانات التعلم الآلي. هذا ما سيسهم أكثر في اندماج الإنسان مع التطور المحدث، وكذا عدم خسارة وظائفه وإنما تطوير إمكانياته لمواكبتها.
من ناحية أخرى، سيؤدي تطور الذكاء الاصطناعي إلى ظهور كثير من فرص العمل الجديدة في مجال تصميم وتطوير الروبوتات والأنظمة الذكية.
وتوجد فرص كبيرة لنشأة وظائف جديدة في مجالات التحليل البياني، وإدارة البيانات الضخمة، وخدمات التقنية السحابية. فتتطلب ثورة الذكاء الاصطناعي إعادة تأهيل العاملين في المهن المهددة للعمل في مجالات جديدة، وسيجب تدريبهم على مهارات جديدة مثل برمجة الآلات، وتحليل البيانات الضخمة، وتصميم أنظمة ذكية، وسيحتاج القطاع الصناعي لخبرات في الروبوتات والذكاء الاصطناعي.
خلال هذا ستظهر فرص وظيفية جديدة في مجالات البحث والتطوير، مثل تصميم الروبوتات والبرمجة الآلية. وستنشأ وظائف في مجال تحليل البيانات وإدارة قواعد البيانات الضخمة. وستزداد الحاجة للخبرات في الذكاء الاصطناعي، وإدارة الشبكات والتحكم عن بعد؛ لذلك يجب على الإنسان استغلالها للحفاظ على مكانه في سوق العمل.
ويشهد سوق العمل بدوره تحولات جذرية بفعل التطور المتسارع للذكاء الاصطناعي، ما يتطلب من الأفراد والشركات التكيف مع متطلبات سوق العمل المتغيرة، فهذا التغير سيدفع بكثير من القطاعات إلى ظهور متطلبات عملية جديدة من نوعها تسهم بدورها في خلق فرص جديدة، فيكون الأمر بدوره مثل عملية التبادل. مثال:
- إن كان تهديد بعض الوظائف التقليدية بجعل الروبوتات والذكاء الاصطناعي يحل محل الإنسان، مثل وظائف التصنيع والإدارة. فيمكن بدوره أن يكون المتحكم في عقل الآلة وكيفية تشكيل الخوارزميات والأوامر الرقمية.
- أيضًا ستظهر وظائف جديدة تتطلب التعامل مع التقنيات الحديثة مثل تصميم الروبوتات التي تحتاج بدورها للإنسان وعمله.
- ضرورة إعادة التدريب والتعلم المستمر لمواكبة التغيرات التقنية السريعة.
- فرص جديدة للعمل عبر الإنترنت، مثل تصميم محتوى رقمي أو خدماته.
- أهمية المهارات غير التقنية مثل التعامل مع البشر، وحل المشكلات في الوظائف المستقبلية.
اقرأ أيضًا: مخاطر الذكاء الاصطناعي في المستقبل
هل يختفي دور الإنسان؟
خلاصة الموضوع.. لا يمكن لدور الإنسان أن يختفي؛ فلا أساس للذكاء الاصطناعي دون وجود الإنسان، وهذا لا جدال فيه؛ فالذكاء الاصطناعي ما إلا نتاج له لا غير. صحيح أنه تفوق عليه في مراحل لكن ما زال الإنسان بدوره مبهم الفهم ويحتاج لدراسة، ولا شك في أنه يمكنه في الأعوام القادمة أن ينشئ إنسانًا آليًّا محاكيًا له في كل أموره حتى يمكن أن يتفوق عليه.
ولا شك أن الذكاء الاصطناعي يمثل قوة دافعة وراء تغير سوق العمل على نحو جذري. فبينما يفتح آفاقًا جديدة للوظائف والابتكار، لكنه يثير أيضًا مخاوف بشأن مستقبل كثير من الوظائف التقليدية؛ لذا يتطلب الأمر تضافر الجهود من قبل الأفراد والشركات والحكومات للتكيف مع هذه التحولات، وكذا التركيز على تطوير المهارات الرقمية والإنسانية على حد سواء؛ من أجل بناء قوة عاملة قادرة على مواكبة التطور التكنولوجي، فهو المفتاح من أجل تحقيق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.