بين الماضي والحاضر

وقت الظهيرة، عندما خرجتُ من مدرستي، أوقفتني امرأة كبيرة في السن، إذ بدت خطوط الزمن واضحة على وجهها. تأملتها... كيف مضت هذه السنوات عليها؟ وكيف أصبحت هكذا؟ هل أصبح مثلها يومًا ما؟ تردد هذا الصوت في داخلي إلى أن سألتني قائلة: «هلَّا ساعدتني، يا ابنتي، بالعثور على حفيدتي في هذه المدرسة؟» فأعطتني اسمها، وطلبت مني أن أرافقها إلى مبنى الإدارة للسؤال عن صغيرتها.

دخلتُ وإياها المدرسة، فإذا بها تتأمل المبنى بكل تفاصيله، من رُسُوم وكتابات عليه.

فجأة قالت: «كم تمنَّيت لو عشتُ هذه المرحلة من حياتي بين جدران هذا المبنى... يا ليت الزمن يعود بي لأتعلَّم ولو حرفًا واحدًا!».

لاحظت أن عينيها امتلأتا بالدموع، فسألتها عن حياتها: «كيف كانت؟ أحقًا ما تمنيته؟» سألتها والدهشة بادية على وجهي.

أخبرتني بأنه في الماضي لم يكن لديها مجال للتعلُّم، فقد أمضت حياتها في الزراعة ورعي الأغنام مع والديها، ولم تكن بيوت العلم قريبة منهم، إذ كان على أولاد القرية المشي لمدة ساعة للوصول إلى أقرب مدرسة عندهم، ولم يسمح لها والدها بالذهاب إلى المدرسة؛ لأنها كانت بعيدة كل البعد عن قريتهم الصغيرة، إذ كانت تحتاج إلى ساعة للذهاب وأخرى للعودة.

أخبرتني كم بكت وتوسَّلت لوالدها ليسمح لها بالتعلُّم هناك، لكن كانت إجابته دائمًا بالرفض، إلى أن كبرت وتزوَّجت ورحلت إلى مدينة بعيدة عن قريتهم.

أخبرتني بأنه عندما رُزقت بأبنائها، كيف أرسلتهم بكل فرح وسرور إلى المدرسة، إذ تغيَّرت الحياة، وأصبح بإمكانهم الذهاب والعودة باستخدام الحافلات المدرسية.

تتحدث عنهم وكأنها تتحدث عن نفسها، سعيدة بما أوصلت إليه أبناءها، وهي الآن مع حفيدتها، تأتي إليها لرؤيتها والسؤال عنها.

شعرتُ من نبرة صوتها بحبها الشديد للعلم والتعلُّم، وشعرتُ بالخجل من كلامها؛ لأن جيلنا يعشق التكنولوجيا الحديثة، والنزهات، والتقاط الصور، واتباع «الترندات» التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

قلتُ في نفسي وقتها: «خطوط الزمن والتجاعيد الواضحة على هذه المرأة لم تقلّل من شغفها للعلم، أما نحن – أي الجيل الجديد – فنبحث عن أي فرصة للتغيُّب عن المدرسة، ولا يهمُّنا إن تخطَّينا صفوفًا جديدة أم بقينا مكاننا، المهم كم أصبح لدينا متابعون على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل: «تويتر»، «فيسبوك»، «يوتيوب»، «تيك توك»، وغيرها من المواقع المعروفة والجديدة».

فجأة، قالت: «هذه صغيرتي... قطعة من قلبي!» تعرَّفت بها، وشكرتني على مرافقتي لها.

ودَّعتُ المرأة العجوز، وعلقت في ذهني كلماتها: «هذا سلاحك، يا ابنتي! كلما ارتقيتِ بالعلم كثيرًا، ارتفعت مراتبك عاليًا في هذا العالم الموحش».

كانت تقول هذه الكلمات وهي تداعب يديها الصغيرتين – يدي حفيدتها – وتقول لها: «ستكونين أفضل دكتورة في المستقبل...»

نعم، إن العلم سلاحك، به ترتفع وتنفع من حولك، وترتقي البلاد بأبنائها.

أساس ارتقاء كل أمة وبلد ووطن.

سبب في رخاء عيشها بتلك العقول النيّرة.

شكرًا لكل من علَّمني حرفًا، والشكر كلمة صغيرة مقابل جهودكم الكبيرة والعظيمة.

أوجِّه رسالة شكر وتقدير لكل معلماتي الرائعات، أنتنَّ قدوتي ومثلي الأعلى.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.