بيل جيتس.. من مصاب بالتوحد إلى عرش التكنولوجيا

«عندما كنت طفلًا، كنت أفتقد للإشارات الاجتماعية، وكنت قادرًا على التركيز بشدة على موضوعات بعينها»؛ هذه كانت تصريحات الملياردير الأمريكي ومالك شركة مايكروسوفت، بيل جيتس التي تحدث فيها عن بعض السمات التي اتسمت بها طفولته التي ربما لو شُخِّصَت اليوم، لكان ضمن أطفال التوحد.

يضيف جيتس أنه «لم يكن لدى والديَّ إرشادات أو كتب مدرسية لمساعدتهما على فهم سبب هوس ابنهما بمشاريع معينة، وتفويت الإشارات الاجتماعية». في هذه المقالة، سوف نسلط الضوء على طفولة الملياردير الأمريكي، وأبرز السمات التي اتصف بها في طفولته، التي جعلته يقول إنه ربما لو كان طفلًا اليوم، لشُخِّص على أنه مصاب باضطراب طيف التوحد.

هل يوجد اختلاف بين التوحد وإسبرجر؟

في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن اضطراب التوحد كان يُشار إليه في وقت سابق بـمتلازمة إسبرجر التي تعني التوحد عالي الأداء أو الكفاءة، وهو أخف أنواع اضطراب التوحد. ومع تطور الدراسات والبحوث وظهور تصنيفات جديدة، ظهر مصطلح طيف التوحد، على اعتبار أن هذا الاضطراب يشمل طيفًا واسعًا من السمات والخصائص التي تميز الطفل المصاب بها، التي تختلف من طفل لآخر.

إذا كان المصابون بطيف التوحد يواجهون صعوبات وتحديات على عدة مستويات، منها ما يتعلق بالتواصل الاجتماعي، والسلوكيات التكرارية، والتفاعل مع الآخرين، مع بعض مظاهر التأخر في النمو الفكري أو الحركي، وتدني مستويات الذكاء، نجد أن متلازمة إسبرجر تعني مستوى متقدمًا، ويتصف المصابون بها بمستويات ذكاء مرتفعة أو في الأقل طبيعية، وكذلك من ناحية اكتساب اللغة، مع صعوبات في عملية التواصل والتفاعل الاجتماعي، وفهم الإشارات غير اللفظية والمعاني المجازية، وهو ما ينطبق على بيل جيتس.

سُمي الاضطراب نسبةً إلى الطبيب النمساوي هانز إسبرجر، الذي وصف الأعراض أول مرة عام 1944، إذ أطلق عليها اسم «الاعتلال النفسي التوحدي».

الطبيب هانز إسبرجر

تُعد متلازمة إسبرجر اليوم اضطرابًا من اضطرابات طيف التوحد، وهي فئة تشمل التوحد (الذي يُسمى أحيانًا التوحد الكلاسيكي) والحالات الخفيفة الشبيهة بالتوحد، حيث يُظهر المصابون بعض أعراض التوحد، وليس جميعها، وكان يُعرف ذلك سابقًا باسم اضطراب النمو الشامل غير المحدد، أو «PDD-NOS».

أعراض متلازمة إسبرجر

متلازمة إسبرجر أكثر شيوعًا بين الأولاد بثلاث إلى أربع مرات منها بين البنات، وقد تظهر الأعراض بعد سن الثالثة، مع أنَّ التشخيص أكثر شيوعًا لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين خمس وتسع سنوات.

على عكس مرضى التوحد، لا يعاني الأفراد المصابون بمتلازمة إسبرجر عادةً من صعوبات إدراكية كبيرة، إذ يكون معدل ذكائهم طبيعيًا أو حتى مرتفعًا، ثم إنهم لا يُظهرون تأخرًا في اكتساب اللغة.

ومع ذلك، يُظهر الأطفال المصابون بمتلازمة إسبرجر أنماطًا سلوكية متكررة مشابهة لتلك التي تُلاحظ لدى الأطفال المصابين بالتوحد، وغالبًا ما يتجنبون التواصل البصري، ويعانون ضعفًا في التحكم في الحركات الدقيقة، ولديهم اهتمام مفرط بجسم واحد، مثل جهاز كمبيوتر أو نوع سيارة.

أعراض متلازمة إسبرجر

يتجلى هذا الهوس عمومًا في رغبة مستمرة في التعلم والتحدث عن هذا الموضوع فقط. قد ينزعج الأطفال المصابون بمتلازمة إسبرجر عند توجيههم للتركيز على مهمة لا علاقة لها بهوسهم، أو عند اضطراب روتينهم اليومي ولو بشكل طفيف، مثل الشرب من كوب يختلف لونه أو ملمسه عن الكوب الذي يستخدمونه عادةً، كما يُصاب بعض المصابين بمتلازمة إسبرجر بالقلق والاكتئاب في مرحلتي المراهقة والبلوغ، وقد لا تُلاحظ الأعراض لدى العديد من المرضى بهذا الاضطراب لسنوات.

وفي غياب تشخيص رسمي، قد يُنظر إلى المصابين بمتلازمة إسبرجر على أنهم ببساطة غائبون عن الوعي، أو محرجون اجتماعيًّا وجسديًّا، أو فائقو الذكاء في أحيان كثيرة، لذلك دائمًا ما يتصف الشخص المصاب بها بأنه «عملي جدًّا».

أما عن سبب الإصابة بهذه المتلازمة، فهو غير واضح، ومع ذلك، فقد أظهرت دراسات التصوير وجود تشوهات هيكلية وعصبية في مناطق معينة من الدماغ لدى مرضى إسبرجر، ومن المرجح أن تُسهم هذه التشوهات في أنماط التفكير والسلوكيات غير العادية المرتبطة بهذا الاضطراب.

يُعالج متلازمة إسبرجر على أفضل وجه بأساليب التدخل المبكر التي تهدف إلى تحسين المهارات الاجتماعية، والتنسيق البدني، والتواصل. ويتحسن عددًا من المصابين بمتلازمة إسبرجر على نحو ظاهر مع برامج العلاج الفعالة. إضافة إلى ذلك، نظرًا لأن الأشخاص المصابين بمتلازمة إسبرجر قد يطورون مستوى عالٍ من الخبرة في مجال محدد للغاية أو حول جهاز واحد، فإن عددًا منهم قادرون على العثور على وظائف يمكنهم النجاح فيها.

ماذا عن سمات التوحد لدى بيل جيتس؟

يتحدث جيتس عن بعض المظاهر التي حدثت له في أثناء طفولته، منها الانحراف العصبي، السلوك الوسواسي، والحرج الاجتماعي في الحياة الشخصية والعامة، مع التركيز الشديد والافتقاد للإشارات الاجتماعية، في إشارة إلى مشكلات تتعلق بضعف التواصل الاجتماعي والتفاعل مع الآخرين، مع قدرة عالية على التركيز والاهتمام بأدق تفاصيل موضوع محدد.

سمات التوحد عند بيل جيتس

المشكلة الأبرز أمام هذه النوعية من الشخصيات تتمثل في عدم فهم الإشارات غير اللفظية، والإيماءات، وتعبيرات الوجه، ولغة الجسد، والتعبيرات المجازية، ولذلك غالبًا ما يعانون عاطفيًّا مع شريك الحياة، لعدم القدرة على فهم المشاعر، ومن ثم التعبير عنها، ما يؤدي إلى مشكلات عاطفية تؤثر في جودة الحياة بين شريكي الحياة.

ربما يفسر ذلك في حياة جيتس انفصاله عن زوجته التي رافقته في أعماله الخيرية، كما سيأتي الحديث عنها. مع النظر إلى أن هؤلاء المشاهير، وغيرهم ممن تنطبق عليهم بعض سمات التوحد، يمتلكون الحد الأدنى من التفاعل الاجتماعي، ووضع حدود للعلاقات، وأيضًا يمتلكون الحد الأدنى من التجاوب العاطفي مع شريك الحياة.

هل الإصابة بـ«إسبرجر» تعيق الحياة؟ أم أنها قد تكون دافعًا للإنجاز؟

كثر الحديث بين المهتمين باضطراب طيف التوحد بشأن الآثار السلبية للأشخاص المصابين بهذا الاضطراب، وتأثيراته السلبية على حياتهم الاجتماعية والعملية، وصعوبة ترقيهم اجتماعيًّا وعلميًّا، وهي أمور يدحضها العلم والواقع.

فها هو بيل جيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت، أكبر شركة برمجيات حاسوب شخصي في العالم، الذي انضم في عام 1975، وكان آنذاك طالبًا في السنة الثانية بجامعة هارفارد، إلى صديقه بول جي. ألين لتطوير برمجيات لأول أجهزة حاسوب صغيرة، إذ بدأوا بتكييف لغة البرمجة BASIC، وهي لغة برمجة شائعة تُستخدم في أجهزة الحاسوب الكبيرة، لاستخدامها على أجهزة الحاسوب الصغيرة.

مع نجاح هذا المشروع، غادر جيتس جامعة هارفارد خلال سنته الجامعية الثالثة، وأسس مع ألين شركة مايكروسوفت، وبحلول بداية التسعينيات، أصبح جيتس صانع الملوك الأبرز في صناعة الحواسيب.

بفضل نجاح مايكروسوفت النجاح الكبير، جمع جيتس ثروة طائلة كونه أكبر مساهم فردي في الشركة، حتى أصبح مليارديرًا ورقيًا في عام 1986، وفي غضون عقد من الزمان، وصلت ثروته الصافية إلى عشرات المليارات من الدولارات، ما جعله -حسب بعض التقديرات- أغنى فرد في العالم.

مع اهتمامات قليلة تتجاوز البرمجيات وإمكانات تكنولوجيا المعلومات، فضل جيتس في البداية البقاء بعيدًا عن أعين الجمهور، والتعامل مع الشؤون المدنية والخيرية على نحو غير مباشر في إحدى مؤسساته.

ومع ذلك، ومع نمو قوة مايكروسوفت وسمعتها، أصبح جيتس، مع بعض التردد، شخصية عامة أكثر. صوره المنافسون على أنه مدفوع ومزدوج الشخصية ومصمم على الاستفادة من كل معاملة إلكترونية تقريبًا في العالم. من ناحية أخرى، احتفى مؤيدوه بفطنته التجارية الفريدة، ومرونته، وشغفه اللامحدود باستحداث طرق جديدة لجعل أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات أكثر فائدة بواسطة البرمجيات.

بيل جيتس والأعمال الخيرية.. معادلة صعبة

من الأمور اللافتة في حياة هذا الشخص، وعلى الرغم من معاناته منذ الصغر في فهم الإشارات الاجتماعية والتفاعل معها، هو اتجاهه نحو الأعمال الخيرية، إضافة إلى عمله في مايكروسوفت.

كتاب بداياتي لبيل جيتس

ففي عام 1994، أطلق مع زوجته آنذاك، ميليندا، مؤسسة ويليام إتش جيتس التي أُعيدت تسميتها إلى مؤسسة بيل وميليندا جيتس عام 1999، لتمويل برامج الصحة العالمية، إضافة إلى مشروعات في منطقة شمال غرب المحيط الهادئ.

وخلال أواخر التسعينيات، موَّل الزوجان أيضًا مكتبات في أمريكا الشمالية بفضل مؤسسة جيتس للمكتبات التي أُعيدت تسميتها إلى مؤسسة جيتس للتعلم عام 1999، وجمعا تبرعات لمنح دراسية للأقليات بواسطة برنامج جيتس للمنح الدراسية للألفية.

وفي يونيو 2006، أعلن وارن بافيت عن هبة مستمرة للمؤسسة، ما سيرفع إجمالي أصولها إلى حوالي 60 مليار دولار خلال العشرين عامًا القادمة.

في بداية القرن الحادي والعشرين، واصلت المؤسسة التركيز على الصحة العالمية والتنمية العالمية، بالإضافة إلى قضايا المجتمع والتعليم في الولايات المتحدة. بعد مدة انتقالية قصيرة، تخلى جيتس عن الإشراف اليومي على مايكروسوفت في يونيو 2008 - على الرغم من أنه ظل رئيسًا لمجلس الإدارة - من أجل تكريس المزيد من الوقت لمؤسسة بيل وميليندا جيتس.

في فبراير 2014، تنحى عن منصب رئيس مجلس الإدارة، لكنه استمر في العمل كعضو في مجلس الإدارة حتى عام 2020. خلال هذه المدة، حصل على وسام الحرية الرئاسي (2016)، وظهرت السلسلة الوثائقية «داخل دماغ بيل: فك شفرة بيل جيتس» في عام 2019. بعد عامين، انفصل جيتس عن زوجته.

في فبراير 2025، أصدر جيتس كتاب «شفرة المصدر: بداياتي»، وهو الأول من سلسلة سيرة ذاتية من ثلاثة أجزاء، إذ تقدم المذكرات صورة متعمقة عن طفولة جيتس، ومدرسته الثانوية، وسنوات دراسته الجامعية.

في مقابلة مع قناة «سي بي إس نيوز»، ناقش جيتس كتابه، مشيرًا إلى طفولته التي اتسمت بالامتياز نوعًا ما، وتحدياته في التفاعل الاجتماعي، وكيف نظر إلى العالم من منظور رياضي خلال نشأته. وينتهي الكتاب في عام 1979، قبيل انطلاق مايكروسوفت وتحولها إلى ظاهرة عالمية.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة