اعتدت في بداية كل عام دراسي أن أجلد كتبي وبعضاً من كتب إخوتي الأصغر مني سناً حفاظاً عليها من التلف، وإضفاءَ نوعٍ من الجمالية على شكلها العام.
افترشت الأرض بالكتب، وكافة معدات التجليد من ورق ملون، ومقص، ومسطرة، ولاصق، وغيره.
كنت أحب القيام بهذا العمل، وأجد فيه إنجازاً من نوع خاص، وبلغ حد استمتاعي به أني كنت أحرص على سماع الراديو الذي يبث برامج متنوعة وأغاني جميلة، ليضفي جواً خاصاً على هذا العمل السنوي.
ولكن، هذا العام الدراسي الجديد له خصوصية، فأنا قد توجهت للتخصص العلمي في المرحلة الثانوية، وبدأ مستقبلي الجامعي يلوح لي، ولكن المواد الدراسية أصبحت أصعب، فقد تم تخصيص كتب لمواد الأحياء والفيزياء والكيمياء، كل على حدة، والتي كنا ندرسها سابقاً ضمن المنهاج الدراسي لمادة العلوم.
في حقيقة الأمر كنت أكره مادة الأحياء بالذات من كتاب العلوم، ولكن هذا الكُره لم يكن ليمنعني من التفوق فيها، فقد كنت طالبة متفوقة مجتهدة تسعى للحصول على العلامة النهائية أو أعلى العلامات في جميع المواد الدراسية حتى وإن لم يكن هناك ميل لبعض المواد.
بدأت بتجليد الكتب، ولم أكن سعيدة بعملي هذه السنة، فقد كنت أفكر بمرار بمادة الأحياء التي أكرهها وبمعلمة المادة التي اعتقدت أنها لن تستطيع شرح المادة كما يجب، لذلك وجدت حائلاً كبيراً يحول بيني وبين التفوق في هذه المادة.
أكملت عملي حائرة مستاءة وكأن هموم الدنيا قد أطلت علي برأسها القبيح، وخلال ذلك اندفع فجأة هواء قوي من النافذة، تسبب ببعثرة ورق التجليد، فبدأت أعيد ترتيبه، ولكن الهواء استمر في اندفاعه، مما أغاظني جداً، فإذا بي أصيح بالهواء قائلة:
- (بس يا هـوا)، ألا ترى أنني أجلد الكتب.
وصدف أن توقف الهواء فجأة، فسعدت لاستجابة الهواء لطلبي هذا، ولا أدري لغاية هذه اللحظة، من أين واتتني هذه الثقة؟
عدت أفكر في مادة الأحياء وصعوبتها وأنا أجلد الكتب وأسمع المذياع دون أن أنصت له، قلت في نفسي:
- يبدو أني سأحصل على علامة جيد جداً في الأحياء..
وكان هذا الأمر كارثياً بالنسبة لي في تلك السنوات، فبدأت أجلد بسرعة ودون انتباه، إلى أن قرر الهواء فجأة أن يهب مرة أخرى، ويعيد بعثرة الورق.
هذه المرة فاض كيلي وتشتت تركيزي وضاع منطقي، فصرخت بأعلى صوتي قائلة:
- (بس يا هوا)، ماذا تريد مني؟ ألا ترى أني أجلد الكتب، لماذا تريد أن تخرب عملي؟ ألا يكفي أن مادة الأحياء صعبة جداً هذا العام.
يبدو أن شجاري مع الهواء المندفع من الشباك قد استمر لأكثر من دقيقة، لا أذكر ما قلت فيه مما دفع بوالدتي لأن تأتي من المطبخ وتقف بمحاذاة الباب مستغربة صراخي هذا، فأنا هادئة الطبع، وبطبيعة الحال استمعت أمي لجزء من حواري المبتكر مع الهواء، فقالت وهي تغالب ضحكتها قائلة:
- (إنتِ بتحكي مع الهوا؟)..
إمعاناً مني في الإصرار على موقفي من الهواء، قلت لها ووجهي يحمر خجلاً معللةً صراخي هذا:
- (شوفي الهوا)، إنه لا يدعني أجلد الكتب...
ثم بدأت أصرخ مجدداً:
- (كل شوي بيطيّر الورق، قبل شوي قلت له بس يا هوا، وتوقف فعلاً، والآن رجع، والله إشي بيجنن، مش عارفة أكمل تجليد الكتب).
عندها قالت أمي ببساطة وهي تكتم ضحكتها:
- طيب، أغلقي الشباك......
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.