تعتمد القصة القصيرة على عناصر مهمة كالعنوان والمدخل والعقدة والحل وأيضًا على عناصر الزمان والمكان والشخصيات. ومن المهم أثناء صياغتها التكثيف والاختزال والتقليل من الوصف ومراعاة التسلسل المنطقي للأحداث وإثراؤها قدر الإمكان بالحصيلة اللغوية. وتعتمد أيضًا على تحديد الفكرة والإيقاع السريع وتوالي الأحداث وتجنب التكرار.
وبهذه الأدوات الفنية صاغ القاص «أحمد عوض» من محافظة بورسعيد قصته «ورق» والمنشورة بصفحة 70 بالعدد الأول 2021 بمجلة «المرجان» الصادرة عن إقليم القناة وسيناء الثقافي التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية.
اقرأ أيضًا قراءة في مجموعة عينان في الأفق الشرقي
القصة القصيرة
تدور أحداث تلك القصة داخل الغرفة، وزمانها ما بين نهاية الليل والصباح الباكر وطلوع الشمس، ومن الواضح أنه أحد أيام فصل الشتاء، وهذا يظهر من مقطع في أول القصة (راح يدور حول نفسه داخل غرفته متمنيًا أن تطلع الشمس، حتى تجفِّف ملابسه المعلقة خارج النافذة. اليوم يوم إجازة..
ودَّ أن يخرج مبكرًا، السُّحب ما زالت مسيطرة على الشمس). والمقطع الثاني في منتصفها يؤكد على الزمن والملبس (... والتفت إلى الشمس وجدها تصارع السُّحب. النهار فقدَ نصفه. يرتدي ملابسه نصف مجففة..). فبرغم أن النهار قد انتصف ولكن الغيوم ظلَّت حاجبة أشعة الشمس، وبذلك ظلت ملابس البطل الراوي مبتلة أو بالأحرى نصف مجففة، ولكن ما الداعي بأن يخرج مبكرًا رغم أنه يوم إجازة؟!
المنفضة وهي صحن توضع فيه أعقاب السجائر، وتُصنع من عدة مواد معروفة، إما أن تكون من الزجاج أو اللدائن المقواة أو الفخار أو المعدن. (يحفر بأظافره على الجدار، يرسم صورة لقطار دون سائق، عيناه دارتا في أرضية الغرفة، تذكَّر أن منفضة السجائر في غرفة المدير..)؛
إذ كانت المرة الأولى التي يذكر فيها المدير عند بحثه عن منفضة السجائر، أما في الثانية عند ذكر تكشيرة المدير الدائمة وعصا مقشة مكتبه (أمسك بقلمه يقلِّبه بين أصابعه، ويقلِّب معه ذكريات أعوام طوال قضاها بين قلمه، وعصا مقشة المكتب وتكشيرة المدير المتتابعة على وجهه دون فائدة..). فما العلاقة هنا بين عصا المقشة التي تُستخدم وحدها للضرب ومنفضة السجائر على أرضية الغرفة، وبين أظفار ترسم حَفْرًا صورة لقطار دون سائق على الجدار وبين الأصابع الممسكة بالقلم لسنوات؟!
وفي المرة الثالثة التي ذكر فيها المدير كانت عندما طرح على نفسه سؤالًا وأجاب على نفسه (ما الفارق بيننا؟ لا شيء.. الجحيم (المدير يكسب)، ورجع إلى نفسه فوجد أنه إنسان محدود الأجزاء، يكاد يكون بقعة فوق سطح زجاج المكتب). يظهر من هذا الحوار الذات، النظرة الدونية للنفس، وانخفاض بل انعدام الثقة بالنفس،
ووصف الإنسان نفسه بأنه محدود الأجزاء يعني فقده جزءًا ماديًّا بالجسد كأحد الذراعين أو الرجلين! أم فقده لإحدى الحواس كالبصر؟ وهذا غير صحيح؛ لأنه كان يراقب طلوع الشمس وحركة السحاب بالسماء، ثم البحث عن منفضة السجائر بأرضية الغرفة، وهو يستطيع الرسم بالأظافر والإمساك بالقلم.
من الواضح أن المدير يتمتع بشخصية نرجسية (وتكشيرة المدير المتتابعة على وجهه دون فائدة.. ما الفارق بيننا؟.. لا شيء.. الجحيم (المدير يكسب)...). فمن خلال وصف الراوي له في العبارات السابقة، يظهر من المواقف أو السلوكيات المتعجرفة؛ هذه السلوكيات هي أكثر بكثير من مجرد تصرف شخص بطريقة متعجرفة، يؤمن النرجسي أنه أفضل من الآخرين حقًّا، وغالبًا ما يشعر بالإهانة عندما يحاول الآخرون التواصل معه «على قدم المساواة».
وما لبث أن استكمل الراوي حديثه عند الأقدام والأيدي في الفقرة التالية فيقول: «قدماه تمشيان بخفة كإصبعين.. تلال كثيرة من الفِكَر تحلق حولها أجنحة خيالاته؛ يده تمسك بالكتاب.. الحروف ترتعش على الصفحات، لقد قرأ كثيرًا». إذن فهو مفكر مثقف قارئ نهم، ففي البداية ممسك بالقلم منذ سنوات والآن ممسك بالكتاب أيضًا. وقد ذكر المقولة التالية بين قوسين «الماديات كلمات تُقرأ خلف الڤاترينات». وهذه العبارة غريبة ومدهشة. فمثلًا لو قلنا الفتيات خلف الفاترينات، الفتيات المقصودات خلف الفاترينات قد يكن عارضات أزياء؛ كأن الكاتب يريد أن يقول خلفَ الفاتريناتِ تَتَّخذُ الماديات مكانَها بشموخ!!
وفي اعتقدي أن استخدام هذا التعبير «خلف الفاترينات» أو «خلف زجاج الفاترينات» خاص بأدباء مدينة بورسعيد بحكم أنهم أبناء محافظة تجارية منذ سنوات طويلة. والداعي لأن أصل لهذا الاعتقاد، هو أنه عند البحث على هذا التعبير بمحرك البحث «جوجل» توصَّلت لقصيدة شعرية بعنوان (كليوباترا فى شواطئ بورسعيد) بقلم الشاعر/ محمود الشامي، وقد أهداها بورسعيد، كتب في مطلعها يقول:
الشوارع متأنقة
لقدوم جلالتها
والنيون
بث أشعته
خلف زجاج «الفاترينات»
خجلًا من عينيها
أيتها المدينة
كيف تركت البحر وحيدًا
وتركت الليل وحيدًا
كيف تخليت عن الأحزان
اقرأ أيضًا مشروع إحياء القصة القصيرة
التشبيهات والمتناقضات
وطبعًا قصة «ورق» التي نحن بصددها قرأتها في تلك الدراسة للكاتب البورسعيدي «أحمد عوض» الذي ترجم جميع الماديات إلى كلمات تُقرأ من خلف الفاترينات، وكما هو معلوم فأي سلعة، مهما كانت، ستُرى بالعين، ويُقرأ سعرها أو يُتأمل في شكلها ومواصفاتها بالأعين.
دائمًا لا يعلم الناس ما إذا كان الشخص أمامهم فارغ البطن وجوعان، ولا يرون هيئة ملابسه الداخلية ما إذا كانت سليمة أم مقطوعة. فإذا بالكاتب يرسم لنا الملابس الداخلية ويصف لنا حالة المعدة من الداخل، ومسار الطعام من أول الفم والفكين والأسنان وصولًا للأمعاء (ملابسه الداخلية مرتقة مثل وجه الصفيحة، أمعاؤه تتلوى في داخله تقرأ قرقعات الجوع.. لاك قطعة من الورق في فمه، تقف بين فكيه، تنغرس بين أسنانه، يمد إصبعيه وينتزعها ويحدق فيها بعينيه ثم يقرأ حروف أسنانه (الكلاب المسعورة تلتف حول مائدة واحدة) في صالون الحلاقة أشخاص كثيرون يحبون سماع قصائده).
أتحفنا الكاتب «أحمد عوض» بكم هائل من التشبيهات والمتناقضات المتتالية في فقرة سردية واحدة، جعل المعدة والأمعاء ترى كالعينين بل وتقرأ مثلهما، بدلًا من أن تهضم الطعام الذي استبدل البطل الورق به، فبدلًا من إفراز العصارة الهاضمة كانت قراءة السطور المكتوبة على الورق، وبدلًا من امتصاص خلاصة هضم الطعام كان امتصاص الأفكار والآراء،
بل انغراس الألياف الورقية بين أسنان الفكين بدلًا من ألياف الدجاج أو اللحم، ما كان يلزم من تسليكها لإخراج ما وقف بينهما. وطالما يوجد أشخاص من محبي الشعر يسمعون قصائده، إذن فهو شاعر، وما أكله من ورق كتب عليه أبياتًا من الشعر ومكتظ بالقصائد، حتى يكتمل هذا المشهد الغريب كان إلقاؤه الشعر للمتلقين بصالون الحلاقة وليس بالصالون الأدبي أو الثقافي. إذن فعلى الشاعر النزول للشارع وعرض شعره في أي مكان حتى ولو كان في السوق أو عند الحلاق.
هنا الكلب/ الكلاب موجودة داخل هذا النص القصصي «الكلاب المسعورة تلتف حول مائدة واحدة»؛ «مجموعة من الناس تتزاحم حول جسد كلب دهمته سيارة. السائق يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة بين الأيدي الممتدة حول عنقه. أحدهم يقول: كلب ممتاز والآخر يطلق عليه لقب نمر». الكلاب تنبح/تعوي والقافلة تسير/تمشي، يا لها من حكمة عظيمة، تصلح نوعًا من التشبيه في هذا المقام الرفيع حيث تحول الأمر عكسيًّا لأناس مسعورة تريد أن تنفض جيوبك وتتركك جائعًا، وعليك أيها المواطن المسالم ألا تغضب ولا تنبح لكي لا تزعجهم.
وأمر وجود المستمعين للقصائد الشعرية داخل صالون الحلاقة ليس هو الأمر العجيب فقط، بل وجود الرسائل التي لم يصل عنها رد.. ويحتفظ هذا الشاعر بنسخ كثيرة منها كانت موجودة هي الأخرى في البقالة «عم عبده البقال أراد أن يشتريها منه بقروش»، أي باعها له لاستخدامها في أعمال البقالة! علمًا بأن اسم الشخصية الوحيدة التي ذكرها الراوي بالقصة كان اسم عم عبده البقال،
وحتى يزيد الأمر دهشة وأن البطل سعى للخروج مبكرًا من بيته وارتدى ملابس نصف جافة بسبب غيوم الجو سار «على الطريق لافتة من الخشب لم يُكتب عليها شيء بعد» وكانت هذه هي اللافتة الأولى التي ظهرت، يليها الثانية (وتكاثرت الكنايات على ألسنة الجميع، حاول الحديث معهم، ضاعت كلماته وسط الزحام. يجرى مسرعًا نحو اللافتة المرفوعة على الجانب الآخر من الطريق، قدماه تتعثران في قطعة صلبة من الأرض، قلمه يقع إلى جانبه على الطريق)،
فيا له من طريق! فأرضيته صلبة تتعثر عليها قدم هذا المبدع أثناء جريه عليها، بل ويقع من يده القلم بجوار اللافتة الموجودة على جانبه، وبسبب تلك الوقعة فقد غاب عن الوعي، ما اضطر سيارة الإسعاف أن تأخذه بعيدًا عن مكان اللافتة إلى المستشفى لإنقاذه وعلاجه (عربة بيضاء تحمله في داخلها وتذهب به بعيدًا عن اللافتة. يغلق عينيه مرة واحدة. المحقق يبحث عن شخصيته.. يمد يده، يخرج أوراقًا كثيرة.. يقرأها متعجبًا ويصيح: (كان يصلح أن يكون فنانًا)). هذا مشهد قصصي مهم ختم به القاص «أحمد عوض» قصته «ورق».
فقد أخرج المحقق متمثلًا في ضابط الشرطة أو وكيل النائب العام من داخل جيوب هذا المصاب لكي يصل لورقة ترشد عن شخصيته ومن يكون، لكنه وجد كلمات فنية صيغت في صورة أبيات شعرية جميلة، ما دعاه أن يصرخ متعجبًا بأن هذا الإنسان فنان. وهنا مفارقة مهمة أقامتها القصة، فعندما دهست السيارة كلبًا في منتصف الطريق تزاحم حوله مجموعة من الناس، في حين عندما وقع هذا الإنسان الفنان مرهف المشاعر غير المعروف لم ينظر له أحد!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.