بائع الوهم.. حين تحول الخوف إلى كرامة!

لم يدرك أهل القرية بأن حادثة البئر ستجر عليهم كل هذا الضجيج، فمنذ أن وقع سعيد في البئر والقرية تغير حالها، وانقلب رأسًا على عقب.

وتعود الحكاية ليوم ربيعي دافئ عندما توجَّه سعيد ليملأ دلوه من مياه البئر الكبير في طرف القرية، وما أن ألقى بدلوه حتى سمع صوتًا وكأن أحدًا يستنجد، فأصغى سمعه ولكن الصوت لم يكن واضحًا، فاقترب من حافة البئر، ووضع راحتيه على الحافة، ودلَّى نصف جسده العلوي في فوهة البئر، وما هي إلا لحظات حتى فقد فيها توازنه وسقط في البئر مُطلقًا صرخة عظيمة سمعها راعي الغنم حسان، فركض باتجاه البئر وقلبه يحدثه بأن هناك من سقط في البئر، ووسط صرخاته وحوقلته سمع صوت سعيد من الأسفل يستنجد به، فطمأنه بأنه سيعود إليه بعد أن يحضر من يساعده في انتشاله.

وصل أهل القرية الذين استنفرهم حسان بصراخه إلى البئر، ليُفاجأ الجميع بأن سعيدًا يجلس بجوار البئر منهكًا وقد أعياه التعب، ونظرات الخوف بادية عليه، فبدأت الحناجر بالصراخ والأسئلة تنصب فوق رأسه صبًا، فكيف له أن يخرج من البئر وحده وبهذه السرعة؟! ولكن سعيدًا التزم الصمت فلم يُجب عن أيٍّ من تلك الأسئلة؛ فظن أهل القرية بأن لوثة قد أصابت عقله، فحملوه إلى بيته وأسلموه لزوجته بعد أن أخبروها بما حدث.

نام سعيد ليلته تلك وهو يهذي بالبئر وبما رآه هناك، ولكن زوجته لم تفهم من كلماته إلا القليل.
وفي الصباح بدأت الحكايات الغريبة بالتنقل بين بيوت القرية، فبعضهم قال إن حارسة البئر الجميلة هي من أنقذت سعيدًا، وبأن سعيدًا قد هام بها وبجمالها ففقد عقله. ومنهم من قال إن طائرًا عملاقًا كان يحلق قريبًا من البئر هو من انتشله من البئر، كل ذلك وغيرها من الحكايات الغريبة التي نسجها خيال أهل تلك القرية المنسية في سفح أحد الجبال.

استيقظ سعيد بعد ليلة متعبة، وما أن رأته زوجته وقد تحسَّن وضعه حتى سردت عليه كل تلك الحكايات التي أُلِّفت في ظلام ليلة واحدة. هزَّ سعيد رأسه ولم ينطق بكلمة واحدة، فما حدث في البئر لا يشبه أيًا من ذلك، ولكن لا ضير لنرى ما الذي ستؤول إليه تلك الحكايات. قال سعيد مخاطبًا نفسه.

وما أن حلَّت الظهيرة حتى قُرع الباب، وإذا بامرأة تحمل ولدها المريض تبكي بكاءً مرًا، وما أن رأت سعيدًا حتى ارتمت عند قدميه ترجوه أن يشفي ولدها. بُهت سعيد، وصُدمت زوجته؛ فسعيد رجل فقير الحال بسيط يعمل في الحقول، ولا علاقة له بطب ولا بدواء. ولكن المرأة أصرت قائلة إن الذي استطاع أن يخرج من البئر سليمًا معافى لا بد أن له كرامات لا تُعد ولا تُحصى، وأنه يمتلك ما لا يمتلكه غيره من علوم متقدمة.

حدَّق سعيد في المرأة طويلًا، قبل أن يحسم أمره ويضع يده على رأس الطفل ويبدأ بترديد كلمات غير مفهومة، ثم أمر المرأة بأن تجلب ماء من البئر وتغسل جسد طفلها الملتهب من الحمى. غادرت المرأة بيت سعيد وهي تدعو له بكل خير. 

كل هذا وزوجة سعيد غير مصدقة لما يحدث، فكيف لزوجها البسيط أن يصبح مداويًا بين ليلة وضحاها؟! ولم تكن تعلم بأن بيتها البسيط سيتحول لمزار لأهل القرية، وبأن الخيرات ستملأ بيتها البسيط ما بين هدايا وأُعطيات. فالمرأة ما أن شُفي ولدها حتى أحضرت لهم شاة علامة على الامتنان، وأشاعت في كل بيت من بيوت القرية بأن سعيدًا رجل مبارك، وأن ما حدث في البئر كان علامة لأهل القرية كي يلتفتوا حوله، ويعلموا قدره بينهم.

وهكذا ذاع صيت سعيد بين القرى المجاورة، وبدأت مهنته الجديدة بيع الوهم للبسطاء، ولم يدُر بخلد أحدهم يومًا أن ينزل للبئر ليفتش عما حدث لسعيد، فلو فعلها أحدهم لأدرك بأن هناك سلمًا حجريًا تسلَّقه سعيد ليصل قريبًا من حافة البئر، وبأن نظرات الرعب والدهشة لم تكن إلا لأنه ظنَّ بأنه سيموت ويتعفن في البئر قبل أن يدركه أحدهم، ولكن الله أنقذه في آخر لحظة، كل ذلك كان سببًا في تلك النظرات، وليس لأنه رأى شيئًا غريبًا في تلك البئر.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.