غارقًا في ألعابه، يفكر كيف يمكنه أن يلفت انتباه والديه اللذين شُغلا تمامًا بأخته الصغيرة التي وُلدت منذ أسبوع فقط. اختطف صوت بكائها جميع الاهتمام، ليصبح المركز الأول في الأصوات المزعجة، كما يعتقد. ولكن مع أول صوت لانفجار، تغير كل شيء.
توجهت الطائرات الحربية فوق المدينة، وانفجرت القذائف في كل مكان، ليغرق الجو بصوتها المروع، ولتتوهج السماء بلوني البرتقالي والأحمر المضيئين في السماء. تراجع صوت أخته إلى المركز الثاني، ولم يعد يسمع سوى أصوات الانفجارات المدوية، وصوت الخوف الذي اجتاح المدينة. كانت والدته تضع يديها على أذنيه كلما انفجر صاروخ، على الرغم من أنه لم يكن يسمع الصوت المدوي، فإنه كان يشعر به.
شعر به قدماه عندما اهتز البيت.. شعر به بعينَيه عندما رأى اندفاع الستائر وتحطم النوافذ الزجاجية، وعندما كُسر باب صالون جده.. وشعر به بأنفه عندما اشتمَّ رائحة لحم مشوي قوية في الأجواء.. استغرب الرائحة، فمنذ بدء الحرب لم يعرف أحد الفرح، لكنه اعتقد أن عائلة قريبة منهم ربما كانت تقيم حفل شواء. ولكن سرعان ما التقطت أذنه كلمات العائلة وهم يتحدثون عن مأساة منزل قريب، وكيف تفحمت أجساد أصحابه.
أخبرته أمه بأن عائلتها ستأتي للعيش معهم، فَرِح، ولكن عندما جاءت الشاحنة المحملة باللحافات والحقائب والملابس، وأتت عائلة جده، رأى وجوه الكبار حزينة، وأعين النساء ملأتها آثار البكاء. الجميع كانوا يطلقون عليهم «النازحون»، لكنه لم يفهم معنى الكلمة إلا بعد أن أصبح هو نفسه واحدًا منهم، وعاش نفس الحزن والألم. وقتها أدرك وحشية حياة الحروب التي تحول أسرة كاملة إلى نازحين بين ليلة وضحاها!
بعد أربعة شهور انتهى اجتياح مدينة عائلة جده، وبدأ اجتياح مدينته، فغادر هو وعائلته مع جده عائدين إلى شقة خاله الناجية من بطش المحتل. غرفة واحدة احتضنت كل الأطفال والنساء. كيف اتسعت؟ اتسعت لأن النساء في وطننا اعتدن تدبير شؤونهن، وجعل الغرفة تتسع للجميع أمر سهل مقارنة بكل الأمور التي قابلتهن في هذا الوطن المغتصب! النزوح يعني مشقة جديدة، تعبًا من نوع جديد، ففي كل تجربة نزوح كان العدو يبتكر أفعالًا شنيعة جديدة، وأنت الضحية، عليك التحمل، عليك عدم الاستسلام، فإن استسلمت مُتَّ وماتت قضيتك.
بعد ستة أشهر من انتظار خبر الانسحاب للعودة إلى أشياء كثيرة ألِفها، وعد أبو عمر عمرَ بأنهم عن قريب سيودِّعون شعور الاختناق والغربة الذي اجتاحهم منذ نزوحهم. مساء الثاني عشر من شهر نوفمبر، بعد العشاء، غادر والد عمر العمارة التي تقع بها الشقة. ركض وراءه عمر، وقبل أن يجتاز الباب، أمسكته والدته وأغلقت الباب وهي تقول بنبرة حازمة: «والدك ذاهب لقراءة الأخبار، دقائق وسيعود».
قطعها عمر: «ماما، وأنا أعود معه بعد دقائق، أرجوكِ».
شدَّت أمه أذنه وقالت: «تعود لي بزكام؟ الجو بالخارج بارد».
دون سبب، تخلَّى عمر عن إصراره بمرافقة أبيه، وسكن بجوار أمه التي جلست بقلب مقبوض مع عائلتها، وكثرت نظراتها نحو عمر الملتصق بها، وابنتها أمل التي فتحت عينيها في الحرب.
مضت دقيقة على خروج أبي عمر، وبدأت الدقيقة الثانية تعد ثوانيها الستين لتكتمل، وفي الثانية الخمسين، زاد انقباض قلب أم عمر خوفًا من شيء مجهول... أمسكت عمر بقوة واحتضنته.
في الثانية الخامسة والخمسين، دوى تصفير صاروخ قوي، ولم يغلق أحد أذن عمر، فالجميع ظن أنه لا مفر، لا مهرب الآن، فالصاروخ سيسقط عليهم. الكل نطق الشهادة في سره، وجدة أم عمر تتحسبن. الثانية الستون.. اكتملت الدقيقة الثانية لمغادرة أبي عمر البيت. بف.. بف.. صدر صوت الانفجار وزلزلت العمارة، دون إرادة الجميع كانت أعينهم مغلقة، وفتحت الأعين على جو مغبر مملوء بالتراب والدخان.. فتحت الأعين لتعلم بأن السقف لم يسقط ويطحنهم.. فتحت الأعين ليعلموا أن أوصال الحياة لا تزال تبث في أجسادهم، وأن غيرهم صاروا ضحايا اليوم..
هرول الشباب خارجًا، وعلى باب العمارة استقبلت أنوفهم رائحة الدم واللحم.. رائحة الانفجار.. رائحة الحرب والموت.. هب الجيران إليهم، فعلموا أنهم أصحاب المصيبة، ولكن من الذي لحقت به المصيبة؟ أخ أم زوج أخت؟ أم غريب كان يقطع الشارع؟ بقوا دقيقة كاملة ينتظرون أن تخف السحابة الضبابية الترابية ليتضح لهم الأمر.
اليوم زفت العائلة زوج أختهم ليلتحق بكوكبة شهداء غزة الأبرار، ولله الحمد كان الجزء العلوي من جسده سالمًا إلا عينه، أما السفلي فمتفتت.. خمس دقائق وكان الخبر الأخير في كل القنوات الإخبارية خبر استشهاد أبي عمر، وبجانب اسمه 30 سنة. أتدري لماذا نكتب عمر الشهيد بجوار اسمه؟ ليعلم القارئ أن حياته لم تبدأ بعد، وإن بدأت نكتبه ليعلم أنها انتهت مبكرًا، نكتبه لتسألوا أنفسكم كم يتيمًا ترك وراءه، نكتب العمر على أمل أن تشعروا بأمثال عمر الذي لا يفهم معنى الموت، الذي لن يذهب والده لتسجيله في الصف الأول، ولا للوقوف بجانبه في أثناء تكريمه، أو حتى الوقوف بجانبه في العِراكات.
ماذا عن أمل؟ كثر اسم أمل في الحرب، لماذا؟ يسمون عندنا «أمل» على أمل أن تكون وجه خير، فتنتهي الحرب ويتشافوا بضحكة أمل! أبو عمر كان يحب ضحكة أمل، كان ينتظر أن تخرج من بين شفتيها حروف اسمه، ينتظر أن تقول «بابا» أو «ماما»، كان ينتظر أن يرى أول خطوة لها، كان ينتظر العيد ليشتري لها فستانًا.. نكتب العمر لتعلموا أنه لم يمارس كل دوره في الحياة، لكننا نقول الحمد لله، فالحياة قضاء وقدر.
نام عمر وهو ينتظر عودة أبيه، نام وهو مقرر أن يلومه لأن الدقائق تحولت إلى ساعة. كل الصغار ناموا إلا الكبار، بقوا يصابرون أنفسهم ويرجون من الله القوة، وينطقون بكلمات لتخفيف الألم عن زوجته، عن أمه وأبيه وإخوته. كلمات كانت تُنطق من قلوب جربت ذات المعاناة من قبل، معاناة الكل يتذوقها بطعم مختلف، وهنا تتساءل القلوب باستغراب: هل عندما عانت ونزفت كانت تسمع كلمات من حولها؟ ولو سمعت، ما هي الكلمة التي سترمم، ستشفي كل شيء بمجرد سماعها؟
في اليوم التالي، تجمع الجيران والأهل والأصحاب، يصلون صلاة الجنازة ويودعون الحبيب. بعد الانتهاء والحمد، سَلِمَ وجه الحبيب لتشبع منه أعين الجميع قبل أن يغطيه الكفن الأبيض، وبعدها يختفي تحت التراب. الحمد لله هناك وجه لتقبله الوالدة الحبيبة، ومن بين الجميع جلست أخته بجوار رأسه تبكي وتقول: «لو التقيت بأبي البنات، سلِّم لي عليه». زُفَّ جسد الحبيب إلى قبره بتكبيرات الحشود.
مرت الأيام، وعمر ينتظر والده، وكلما سأل أمه عن إجابتها: «بابا شهيد»، ويعود عمر ليكمل اللعب ويعود ينتظر والده، فكيف له أن يفهم معنى شهيد؟ مر شهر، ومن الشفقة والعطف اللذين رآهما في عيون الجميع، ومن عدم عودة والده طوال هذه المدة، فهم الأمر.
مضى على وعد أبي عمر ورحيله أربعة أشهر انتهت فيها الحرب، ذهب عمر دون أبيه إلى مدينته، وعندما رآها تمنى لو أن والده كان معه ليرشده إلى بيته المدمر، ليذكره بالشوارع، وقف على ركام بيته وهو يتمتم: «أبي، لو جئت مثلك ترى البيت. أحب أن أقول إنني أفتقدك، وسأفتقدك على طاولة الإفطار، فرمضان يفصل بيننا وبينه عشرة أيام. أبي، أود أن أسألك: من سيشتري لنا الحلوى بعد الإفطار؟».
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.