يمثل اليوم العالمي للمرأة مناسبة عالمية تتجدد في الثامن من مارس كل عام، لتسليط الضوء على الإنجازات الهائلة التي حققتها النساء في مختلف مجالات الحياة، وللتأكيد على دورهن المحوري في بناء المجتمعات وتطوير العلم والثقافة والسياسة والاقتصاد. هذا اليوم ليس احتفالًا فحسب، بل هو أيضًا تذكيرٌ بنضال طويل خاضته المرأة عبر عقود لتنال حقوقها في التعليم والعمل والمشاركة المجتمعية. ويكتسب الاحتفاء بهذا اليوم أهمية خاصة في الوطن العربي؛ حيث أثبتت المرأة العربية جدارتها وقدرتها على تجاوز العقبات وصناعة المجد رغم القيود الاجتماعية والثقافية التي واجهتها في مختلف العصور.
وقد برزت في تاريخنا العديد من النماذج النسائية العربية الملهمة التي أصبحت رموزًا للتميز والإبداع، من بينهن: العالِمة الرائدة سميرة موسى، والبطلة الأولمبية نوال المتوكل، والمعمارية الفذة زها حديد، والرائدة الطبية توحيدة بن الشيخ، والطيارة الشجاعة لطفية النادي، والمثقفة والمناضلة عنبرة الخالدي. هذه الشخصيات تركت بصمة لا تُمحى، وأسهمت في تغيير نظرة العالم إلى المرأة العربية وقدرتها على المشاركة الفاعلة في نهضة الإنسان وتطوير الحضارة.
تعريف اليوم العالمي للمرأة
اليوم العالمي للمرأة هو مناسبة دولية أقرّتها الأمم المتحدة، تُقام سنويًا في الثامن من مارس للاحتفاء بالإنجازات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للنساء. كما يُعد فرصة لنشر الوعي حول الحقوق النسوية ومناقشة التحديات التي تواجه المرأة في مختلف المجتمعات.
تاريخ اليوم العالمي للمرأة
بدأت جذور هذا اليوم في أوائل القرن العشرين مع تصاعد الحركات النسوية في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث طالبت النساء بتحسين ظروف العمل والمساواة في الأجور والحق في الانتخاب. وفي عام 1977 اعتمدت الأمم المتحدة هذا اليوم رسميًا، ليصبح مناسبة عالمية يُحتفى بها في كل الدول، ويُسلّط خلالها الضوء على قضايا المرأة وتطلعاتها المستقبلية.
أهمية هذا اليوم للمجتمعات العربية
اكتسبت المرأة العربية خلال العقود الأخيرة مكانة متقدمة في المجالات العلمية والسياسية والاقتصادية. وقد ساهم اليوم العالمي للمرأة في تعزيز هذا الوعي، وإبراز النماذج الملهمة التي كسرت حاجز العادات والتقاليد، وثبتت قدرتها على المنافسة العالمية.
سير موجزة لنماذج عربية ملهمة كتبت التاريخ
نستعرض معكم في هذا الجزء من المقال أبرز النماذج النسائية العربية التي صنعت تاريخًا من الإنجاز والإبداع، وأسهمت في ترسيخ صورة المرأة العربية القادرة على المشاركة الفاعلة في العلوم والرياضة والاقتصاد والعمارة والطب والأدب والطيران، وتركت أثرًا عميقًا في مجتمعاتها، لنرى كيف تحوّل الإصرار والحلم إلى واقع غيّر وجه التاريخ العربي الحديث.
سميرة موسى.. سيدة الذرة وأسطورة العلم المصري
وُلدت سميرة موسى عام 1917 في قرية سنبو الكبرى بمحافظة الغربية في مصر، ونشأت في بيئة تقدّر العلم وتدعم التعليم. أظهرت سميرة نبوغًا مبكرًا جعل أساتذتها يلقّبونها بـ"الطفلة المعجزة". انتقلت إلى القاهرة مع أسرتها بعد وفاة والدتها، وهناك أتمت دراستها الثانوية لتحتل المركز الأول على مستوى الجمهورية، وهو ما أهلها لدخول كلية العلوم بجامعة القاهرة.

في الجامعة، لمع اسمها بقوة حتى أصبحت معيدة لدى العالم الكبير الدكتور مصطفى مشرفة، الذي قدّم لها الدعم العلمي والبحثي وعدها واحدة من ألمع طالباته. تخصصت في أبحاث الذرة، وكان حلمها الأساسي هو "استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية وعلاجية". عملت على ابتكار معادلات تسهم في تقليل تكلفة معالجات السرطان، وكانت تؤمن بحق الجميع في العلاج.
حصلت سميرة على بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة، وهناك واصلت بحوثها المتقدمة في المجال النووي. دُعيت لزيارة عدد من المفاعلات النووية، وهو أمر لم يكن يحدث للعلماء الأجانب بسهولة، ما أثار جدلًا حول طبيعة أبحاثها. ماتت في حادث سيارة غامض عام 1952، ولا تزال نظريات كثيرة تشير إلى احتمال اغتيالها بسبب تفوقها العلمي. رحلت سميرة لكنها تركت إرثًا علميًا خالدًا جعلها رمزًا للمرأة العربية الباحثة عن الحقيقة والعلم.
نوال المتوكل.. أول ذهبية عربية في تاريخ الأولمبياد
وُلدت نوال المتوكل عام 1962 في الدار البيضاء بالمغرب. منذ طفولتها، التحقت بأندية الرياضة النسائية وظهرت موهبتها في سباقات الجري والحواجز. ورغم أن دخول المرأة إلى الرياضة الاحترافية في ذلك الوقت لم يكن أمرًا سهلًا في المجتمع المغربي والعربي، فإن إرادة نوال جعلتها تتخطى كل العقبات.

تحملت المتوكل ساعات شاقة من التدريب يوميًا، حتى أصبحت بطلة وطنية وقارية في سباق 400 متر حواجز. وفي أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984، حققت إنجازًا تاريخيًا بفوزها بالميدالية الذهبية، لتكون أول امرأة عربية وإفريقية تفوز بذهبية أولمبية عبر التاريخ. استقبلها المغرب استقبال الأبطال؛ فقد تحوّلت إلى رمز للإرادة النسائية وإحدى أهم أيقونات الرياضة العربية.
بعد اعتزالها، شغلت مناصب مرموقة في اللجنة الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي لألعاب القوى، وأسهمت في دعم الرياضة النسائية عالميًا. أصبحت نموذجًا للقيادة النسائية الرياضية، وما زالت سيرتها مصدر إلهام للملايين من الفتيات.
زها حديد.. المرأة التي غيّرت وجه العمارة العالمية
وُلدت زها حديد في بغداد عام 1950 لأسرة سياسية وثقافية مرموقة. درست الرياضيات في بيروت قبل أن تنتقل إلى بريطانيا لدراسة الهندسة المعمارية. في لندن، التحقت بمدرسة الجمعية المعمارية، وهناك بدأت تصنع أسلوبًا خاصًا بها يجمع بين الخيال الهندسي والمستقبلية.

أسست مكتبها المعماري الخاص، إلا أن بداياتها كانت صعبة بسبب فكرها المتقدم الذي لم يكن مألوفًا في ذلك الوقت. ومع ذلك، أثبتت نفسها بتصميمات ثورية حصلت بها لاحقًا على أهم الجوائز العالمية، منها جائزة بريتزكر عام 2004، وهي أعلى جائزة في مجال العمارة.
صممت حديد مباني أيقونية منها: محطة إطفاء الحريق في ألمانيا، ومركز الفنون الحديثة في روما، والمركز الثقافي في أذربيجان، ومحطة البواخر في سالرينو، ومركز للتزحلق على الجليد في إنسبروك، وغيرها من المشاريع التي غيرت قواعد العمارة، وقد تميزت أعمالها بالخطوط الانسيابية والجرأة الهندسية. رحلت عام 2016، لكن إرثها ما زال يغيّر خريطة التصميم العالمي ويرسّخ حضور المرأة العربية في العمارة.
توحيدة بن الشيخ.. أول طبيبة عربية ورائدة النهضة الصحية
وُلدت توحيدة بن الشيخ عام 1909 في تونس، ونشأت في أسرة تقدّر العلم رغم الظروف الاجتماعية الصعبة. أظهرت تفوقًا كبيرًا في دراستها، لتكون أول فتاة تونسية تحصل على الباكالوريا، بعدها سافرت إلى فرنسا لدراسة الطب في جامعة باريس، لتصبح أول امرأة عربية تتخرج طبيبة في 1936.

عادت إلى تونس لتؤسس أول عيادة للنساء والتوليد، وبدأت بنشر الوعي الصحي بين الفتيات، كما أسست مجلة "ليلى" النسائية التي نشرَت التثقيف الصحي والاجتماعي للنساء. ساهمت في تطوير قطاع الصحة النسائية، وكانت صوتًا قويًا للدفاع عن حقوق المرأة في التعليم والعمل.
شغلت مناصب عديدة في المؤسسات الصحية التونسية، وحصلت على تكريمات وطنية ودولية. تُعد توحيدة بن الشيخ رمزًا للطبيبة العربية التي شقت طريقها رغم كل التحديات.
لطفية النادي.. المرأة التي حلّقت فوق القيود
وُلدت لطفية النادي عام 1907 في القاهرة، وكانت فتاة تحلم بالطيران في زمن كان الطيران فيه مجالًا مغلقًا على الرجال. التحقت بمدرسة الطيران المصرية سرًا لأن أسرتها كانت ترفض الفكرة. رغم الصعوبات المالية، كانت تعمل نهارًا في شركة ملابس وتدرس مساءً لتسدد تكاليف تدريبها.

في 1933 حصلت على رخصة الطيران، لتكون أول طيارة عربية. لمع نجمها بعد قيادتها طائرة بمفردها في عرض جوي حضره كبار الشخصيات. أصبحت رمزًا للجرأة النسائية في مصر والعالم العربي، وساهمت في تشجيع النساء على دخول مجالات كانت حكرًا على الرجال.
لاحقًا شاركت في حملات لتعليم البنات والتوعية بأهمية العلم والعمل. وحتى بعد اعتزالها الطيران، بقيت رمزًا للمرأة الحُرة التي لا تقبل القيود.
عنبرة الخالدي.. صوت الأدب والنهضة النسوية في فلسطين
وُلدت عنبرة الخالدي عام 1897 في القدس لعائلة تهتم بالعلم والثقافة. درست في مدارس القدس وبيت لحم، وأتقنت الإنجليزية والفرنسية، ما فتح لها باب الترجمة والأدب. كانت أول امرأة عربية تترجم "الإلياذة" لهوميروس إلى العربية، ما جعلها من أبرز المثقفات العربيات في القرن العشرين.

شاركت في تأسيس جمعيات نسائية عديدة في فلسطين ولبنان، وأسهمت في التعليم والعمل الخيري. كتبت مقالات ومحاضرات في الأدب والتاريخ وقضايا المرأة، وكانت من أوائل النساء الفلسطينيات اللواتي خضنَ العمل العام.
رحلت في عام 1986 تاركة تراثًا أدبيًا وتنويريًا مهمًا، جعلها من رائدات النهضة النسوية العربية.
الاحتفاء باليوم العالمي للمرأة ليس مجرد مناسبة سنوية، بل هو تكريم مستحق لسيرة طويلة من الإبداع والتضحية والإنجاز. وقد أثبتت النماذج العربية مثل سميرة موسى ونوال المتوكل وزها حديد وتوحيدة بن الشيخ ولطفية النادي وعنبرة الخالدي أن المرأة العربية قادرة على أن تكون رائدة في العلم والفنون والرياضة والطب والاقتصاد والثقافة، وأن بصمتها لا تقل أهمية عن بصمة الرجال في صنع الحضارة وإثراء الإنسانية.
هذه الشخصيات ليست مجرد أسماء تُذكر، بل هي مشاعل نور تمهّد الطريق لأجيال قادمة من النساء العربيات اللاتي سيواصلن رحلة الإبداع والتميز. واليوم العالمي للمرأة هو فرصة لتكريم الماضي، وبناء الحاضر، واستشراف مستقبل تكون فيه المرأة شريكة كاملة في البناء والنهضة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.