الأكثرية الساحقة من سكان العالم محاطون بجو من المؤثرات، كما هم محاطون بالهدوء، وهذه المؤثرات تعكر عليهم صفو حياتهم، وتثير أعصابهم إلى درجة يشعرون معها أنهم مرضى أو على حافة المرض. فجملة "أشعر بانحطاط" هي جملة يقولها كل منا، وهي تعبير عن شعور أدركناه وأحسسنا به جميعًا.
وتعني كلمة "انحطاط" Depression أي عكس الضغط من أسفل إلى أعلى، باللاتينية "الضغط المعتاد". وتعبير "الانحطاط العصبي" عُرف في القرن التاسع عشر الميلادي. ويطلق "الوهن العصبي" على مظاهر ضعف تنتاب المرء، تبدأ بالتعب، فالإرهاق، لتنتهي في "النوراستانيا" والانهيار العصبي.
وحدود "الانحطاط العصبي" مرنة، فقد يحدث لنا أن نشعر بعد مرض، أو إخفاق، أو فجيعة بعزيز بالتعب أو بالعجز عن القيام بأي جهد جسمي أو فكري.. نشعر وكأننا قد فقدنا ثقتنا بأنفسنا، وصرنا غير قادرين على النهوض بأي عمل.
والوهن العصبي مرض العصر، مرض المدنية المحتضرة، اختص به أصحاب المدن، وبخاصة في البلاد المتقدمة، المفعمة بالمعامل والحركة الدائمة.. وقلما يصاب به أبناء الريف، حيث تحنو الطبيعة -الأم الرؤوم- على أبنائها، فتمسح عن جباههم الآلام والشقاء.
الضجيج
هذا الضجيج القاتل، يحيط بك، ويتسرب إلى أذنك، باعثًا في جسمك كله التعب والعذاب، ويفضي بك في النهاية، من الوجهة النفسية، إلى انهيار عصبي. والواقع أن "عصر الآلة" قتل الهدوء المريح، هذا الصمت الذي يمثل وحده علاجًا فعالًا ضد عدد من الأمراض: فقر الدم، النوراستانيا، الأرق، والتهاب المعدة.
إن الطب اليوم يرجع إلى "ضجيج الشارع العادي" مسببات مثل التعب، والإرهاق، والانفعال، وعدم القابلية للعمل، وصعوبة الانتباه. ثم إن الضجيج الصاخب في بعض معامل الصلب يفضي إلى إصابات بالصمم، ويؤدي إلى أمراض في الدم.
وتزداد الأصوات التي نسمعها كل يوم بازدياد الحضارة واتساعها، فنحن نسمع أصوات محركات السيارات، والطائرات، والمعامل، إلى جانب أصوات أجهزة الراديو، وبكاء الأطفال. ومع ظهور هذه الأصوات وازدياد شدتها وتكاثر أنواعها، تظهر المشكلة التي نعانيها.
كيف يمكن أن نعمل يومًا دون أن نستطيع أخذ قسط كافٍ من النوم؟ ولكن ألا يحق للسائقين أن يسوقوا سياراتهم؟ كيف يمكن لأطفالنا أن يركزوا تفكيرهم في أعمالهم المدرسية عندما تطير الطائرات فوق رؤوسهم أو تسير السيارات بجوار مدارسهم، فتشتت انتباههم، وتمنع وصول ما يقوله الأستاذ لأسماعهم؟
ما حقيقة ضرر الضجيج؟
الضجيج يولد الإرهاق الجسدي والفكري؛ لأنه يتطلب منا مجهودًا جسديًّا وعقليًّا، فالأذن تلتقط موجات الصوت، وترسلها إلى الدماغ، إذ يقع إحساس السمع. فإذا جمعت الجهد الفيزيولوجي "الغريزي" الذي تبذله لسماع شيء ما -كصوت شخص على الجوال، أو صوت المذيع، أو مناداة الطفل- مع مجموعة الأصوات التالية من شتى أنحاء المحيط الخارجي، تبين لك مقدار المجهود والطاقة التي تصرفها في هذا المجال يوميًّا.
إن الأصوات المتأتية عن الضجيج تزداد تدريجيًّا، إلى الحد الذي أصبحت معه في بعض البلاد تمثِّل خطرًا على الصحة العامة.
وقد ثبت أنه إذا تعرض سائق السيارة إلى ضجيج كافٍ لاسترعاء انتباهه، نقصت قدرته على القيادة السليمة بمقدار 50%. ويعتقد أن الضجيج هو العامل الأساسي المسبب لنحو نصف حوادث السيارات، فقد استطاعوا في "ممفيس" بالولايات المتحدة أن يخفضوا عدد القتلى في حوادث السيارات بمعدل النصف، بعد أن نفذوا حملة واسعة لتخفيض الأصوات في البلدة.
فالضجيج متنوع، ومصادره كثيرة. يوجد ضجيج الشارع بسياراته، وعرباته، وصخب المارة فيه، ينساب إلى الغرف عبر النوافذ والأبواب الخارجية، ويمكن الحد منه كثيرًا باستخدام نوافذ تُزوَّد بطبقتين من الزجاج تختلف سماكتهما، فلا يتمكن الصوت من اختراقهما.
ويوجد الصخب الذي يهاجمك وأنت في عقر دارك: أدوات منزلية، جوال، راديو، تلفاز... إلخ.
وعليك أن تعرف أن الصوت ينعكس على الجدار كالطابة، وقد ينعكس على جدران تضخمه وتبعث به إليك قويًّا مزعجًا على شكل صدى، لا يكون مدويًا كما هو الحال في المغاور والكهوف، ولكنه مع ذلك يُكره الأذن على الانتباه والجهد.
أذنك تسمع وأنت نائم
وإذا كنت معتادًا النوم وسط الضجيج، فإنك لم تصل إلى ذلك إلا بعد إرهاق عصبي. وإذا طرق سمعك صوت خارجي وأنت نائم، انتفَضْتَ بعنف حتى ولو كنت مستغرقًا في النوم، فالأصوات إذن -مهما يكن نوعها- يجب أن تجد لها مستقرًا فوق سطح ما يمتصها أو يمتص قسمًا منها.
ويجب أن تعلم أن الزجاج لا يمتص أكثر من 1% من الأصوات، وكذلك الرخام، ومن هنا يتبين أن العيشة في قصر رخامي ليس شيئًا مثاليًّا بالنسبة لأذنيك. أما الحجر الهش، فإنه يمتص 4% من الأصوات.
وفي الأسواق اليوم حلول علمية لمشكلة الضجة، تختلف باختلاف أسعارها، أكثرها رواجًا "السقف الممتص"، وسعره غالٍ بالنسبة لعامة الناس، غير أن الحلول الأخرى موجودة بكثرة، وهذه أهمها:
بإمكانك كبت جرس الهاتف بلصق القطن أو الورق عليه، أو وضع الجهاز داخل علبة مبطنة مغلقة.
اختر لغرف النوم الأمكنة البعيدة عن الضوضاء، وانتقِ أبعدها عن ذلك لأطفالك.
ويمكنك استخدام جدار إضافي يفصل بين غرفة نومك وبين الجدار الرئيس، شريطة أن تجعل بين الجدارين كمية من القش أو الفلين أو اللباد.
السجاد عامل من عوامل كبت الأصوات، وليس من الضروري استخدام السجاد الغالي، ففي الأسواق أنواع رخيصة، كما يمكنك استعمال أي بساط من قطن أو مطاط أو بلاستيك.
ضع في أسفل أرجل الكراسي والمقاعد قطعًا من المطاط أو الجلد.
الهدوء وعدم الضجة خلال الطعام ذو أهمية أكبر مما تتصور، فحاول أن تكون غرفة طعامك هادئة بقدر الإمكان.
التعب والإرهاق
كان لاتساع آفاق التجارة والتعامل، ولتشعب العلوم وكثرة الاختراعات والاكتشافات، تأثيرٌ في اتساع آفاق الإرهاق، فالمدينة وما يرافقها من تقدم آلي، نعمة للبشرية، ولكنها نقمة على عصر كثرت فيه المنافسات، وعمت فيه الفردية والوصولية لإيجاد مركز في مجتمع لا يرحم. في كل مكان ضجة وعمل: العامل في معمله، والمفكر وراء آفاق تفكيره، والتاجر وصاحب المشروعات.
الإرهاق هو انحطاط عميق مستمر، يطلق عليه الأمريكيون نعت "الهدم"، يشعر المصاب به بانحطاط جسدي مع تعب لا حد له. أما فيما يتعلق بالحالة النفسية، فيوجد شعور بضعف الذاكرة، وصعوبة في تركيز الانتباه، ويأس، وتهرب من المسؤوليات. المصاب شاحب اللون، تحيط بعينيه هالتان، يبدو مضطربًا، فاقد الشهية.
وكثيرًا ما تكون الأسباب واهية يمكن تلافيها... خطيئة في القواعد الصحية، مثلًا، هي السبب. فقد يكون الغذاء كافيًا، في حين أنه توجد أخطاء في التوازن الغذائي أو فوضى في مواعيد التغذية، والتمارين الرياضية تخلو في كثير من الأحيان من حياة رجال الفكر.
ولمكافحة الإرهاق والتوقي من الوقوع فيه، يجب الإسراع في معالجة التعب... فالتعب أول مراحل الإرهاق. ولقد اهتدى العلماء إلى سر شعور الإنسان بالتعب، ولم يعد يوجد أي مبرر لأن تستسلم لهذا الشعور مع وجود طاقة كبرى لا تزال كامنة فيك. وبوسعك أن تستعمل مكتشفات العلماء بهذا الشأن لكي تتغلب على الشعور بالتعب قبل أن تصاب بالإرهاق.
توجد إشارتان مختلفتان تنطلقان في دماغك لإشعارك بالتعب، هما المواد الكيميائية التي تجري في الدورة الدموية، وهي النفايات الناشئة عن الإرهاق.
وهذه النفايات هي التي تسبب التعب الصحي الذي تشعر به بعد ممارسة جهد شاق. أما الإشارة الثانية، فهي عاطفية، وهذه تسبب الإرهاق العصبي الذي يستولي عليك عندما لا تؤدي أي عمل على الإطلاق.
التعب العصبي
يحدث أحيانًا أن يتعب الإنسان قبل أن يبذل أي مجهود، وهكذا يحكم على نفسه بالإخفاق قبل أن يبدأ العمل، وهذا ما يسميه الأطباء "التعب العصبي"، وهذا لا ينشأ عن الإرهاق الجسمي، بل عن الاضطلاع الذهني. إن الإرهاق العصبي يأتي عقب حدوث تبدل في حياة الإنسان - كالتحاقه بعمل جديد، أو زواجه، أو ولادة طفل له - فهذه التطورات تتطلب من الإنسان أن يسلك سلوكًا خاصًا مختلفًا عن سلوكه المعتاد.
إن خير سلاح يملكه الإنسان للتغلب على شعوره بالتعب، مهما تكن صفته، هو المرح والاستبشار، وقد قال أحد الأطباء: "إذا لم يستطع النوم أن يطرح متاعبك جانبًا، فإن الضحك من هذه المتاعب يكفل لك الخلاص منها."
أما علاج الإرهاق، فمن اختصاص الطبيب، عليه أن يتعرف إلى أسباب الإرهاق وإلى أخطاء النظم الصحية المتبعة من قبل المريض، وليس الأمر سهلًا أن يتمكن الطبيب من تقويم المعوج في حياة مريضه، كإزاحة أوهامه وخوفه من البرد مثلًا.
إن المداواة الحقيقية تكمن في التنظيم. إن الوقت الذي يستغرقه العمل لا يهم بقدر ما تهم طبيعة هذا العمل.
إن الحياة المنتظمة في الأسرة خير علاج للإرهاق، وعلى الآباء تقع مغبَّة إهمال أطفالهم وتنظيم حياتهم. فبعضهم يرهقون أطفالهم بالدرس حرصًا على مستقبلهم، وآخرون يمنعون عن أطفالهم اللعب والتسلية.
إن كفاح الإرهاق يصطدم بمشكلات اجتماعية صعبة الحل، فالحياة معقدة ماديًّا ومعنويًّا. وطراز العيش في الأسرة، إذا لم يكن منظمًا هادئًا، من أخطر الأمور، ولسوف تنتقل الحضارة بصخبها وضجيجها من مرحلة إلى مرحلة أسوأ، ويتبعها الانحطاط الجسمي والنفسي.
النوراستانيا أو وهن الأعصاب
يطلق الأطباء اسم "الوهن العصبي" على المرض الذي يصيب بعض الشباب في سن العشرين، الذين وُلِدوا في بيئة عصبية.
يشعر المصاب بالتعب والإعياء، ويبدو جليًّا وقت النهوض من النوم، ويخف في النهار. وأقل جهد يقوم به المصاب يزيد في تعبه، ثم يشكو المريض آلامًا غير ثابتة أو غير مركزة في ناحية معينة من جسمه.
ويشكو من الصداع وآلام الرأس... تارة يصفها بغليان في الدماغ، وأخرى بفراغ في الرأس، يزداد كلما حاول القراءة والكتابة... يرافق كل هذا دوار، فيقول إنه يكاد يهوي إلى الأرض التي تميد به وتتحرك من تحته.
وأهم عرض يرتكز عليه الطبيب في تشخيص مرض النوراستانيا هو الأرق... يحاوره النوم، يتقلب في فراشه، وينام ساعة أو ساعتين ثم يستيقظ وهو فزع.
إن المصاب بالنوراستانيا يشكو ثقل المعدة، وانتفاخ البطن، والإمساك، وخفقان القلب، والضعف الجنسي، مع خدر وتنمل الأطراف.
ويغلب أن يبدأ المرض خلسة، ثم يظهر فجأة عقب صدمة نفسية، أو إخفاق في الفحص، أو في الحب، أو في عمل تجاري معين.
يوصى المريض بالراحة نوعًا ما، وبعدم التعرض للانفعالات النفسية، وأن يحاول حل مشكلاته فعلًا لا بالعاطفة. إن التفكير وتحكيم العقل يتغلبان على الاهتياج والانفعالات النفسية والجسدية.
وينصح الأطباء مستشيريهم بالمثابرة على المعالجة المائية بنمط رذاذ "دوش" فاتر يومي. إنه يهدئ ثائرة الغضوب، ويضفي السكينة على الأعصاب المتوترة، كما ينصحونهم بتناول مركبات الفوسفور والبروم. وقد أيدت التجارب العلمية فائدة السربنتينا Serpentina المستخلصة من سموم الأفاعي.
ومن الضروري تهدئة الأعصاب المتوترة بإعطاء المثبطات والمهدئات النباتية، كحشيشة الهر "الفاليريان"، ويُمنع عنهم القهوة والشاي، إذ يُستعاض عنهما بمغلي أزهار الليمون والبرتقال والزهورات.
وخير ما يُوصى به كل من يشعر بالتوتر العصبي أو الوهن هو الابتعاد عن جو المدينة الصاخب، وعن زخارف المدينة وملاهيها ولذَّاتها.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.