الولاء قبل العدالة.. عقيدة المافيا في شبكات الفساد الحديثة

في كل مجتمعٍ يبحث عن الاستقرار، تنشأ تلقائيًا شبكات تحكمه من وراء الستار، وتتداخل خيوطها وتتشابك حتى يصير من الصعب تمييز الحدود الفاصلة بين السلطة والفساد، بين القانون والمصلحة، وبين الولاء والواجب. وهذه الشبكات وإن بدت وليدة اللحظة، فإن جذورها تضرب في أعماق التاريخ، متغذية على مبدأ واحد راسخ: "العائلة فوق الجميع".

قد يبدو الأمر للوهلة الأولى دعوة للتماسك الأسري، لكنه في حقيقته عقيدةٌ تتجاوز حدود العائلة البيولوجية إلى عائلةٍ أخرى أكثر نفوذًا: عائلة المصالح.

هذه العائلة الجديدة لا تُحدِّدها روابط الدم، بل تُحدِّدها شبكات الفساد، التي تربط الأفراد بمصالح متبادلة تجعلهم جزءًا من منظومةٍ لا يمكن الانسلاخ عنها. وكما كان الحال في الأنظمة القديمة التي اعتمدت على ولاء العشيرة أو القبيلة، فقد تطور هذا المفهوم في العصر الحديث ليأخذ شكله الأخطر: منظومة من الأبناء المدربين على الإخلاص لبعضهم بعضًا، المتغلغلين في أجهزة الدولة، والذين يدينون بالولاء لمنظومة الفساد لا للقانون.

في ظل هذه العقيدة، يصبح من غير الممكن أن تجد فردًا ينقلب على "عائلته"؛ لأن العقوبة ستكون فورية وحاسمة. إن من ينتمي إلى هذه الشبكة، سواء بإرادته أو بحكم الظروف؛ لا يستطيع أن يتنصل منها، تمامًا كما كان الحال في التنظيمات القديمة التي كانت تحكمها قوانين غير مكتوبة، لكنها أكثر إلزامًا من أي دستور رسمي.

وربما كان هذا هو السر الأكبر في نجاح منظومات الفساد المعاصرة؛ فهي لا تعتمد على الفساد بصفته فعلًا فرديًا، بل بصفته منظومة متكاملة قائمة على تبادل الولاءات. فكل عضوٍ في هذه المنظومة يعرف أن بقاءه مرهون ببقاء الشبكة كلها، وأن سقوط فردٍ منها قد يعني سقوط الجميع. وبذلك تتضح معالم القانون غير المكتوب الذي يحكم هذه الشبكات: إيَّاك أن تنحاز إلى أي إنسان ضد عائلتك.

إن أخطر ما في هذه العقيدة أنها تحوِّل الفساد من كونه استثناءً إلى كونه القاعدة، وتجعل من العدالة مفهومًا مرنًا، لا يُحتكم إليه إلا في الحدود التي لا تضرُّ بمصلحة العائلة الكبرى. وهكذا يصبح الإصلاح مستحيلًا، ليس لأن الإرادة السياسية غائبة فحسب، بل لأن الولاء داخل هذه الشبكات أصبح أقوى من أي دعوةٍ للعدل أو الشفافية.

وعليه، فإن من أراد أن يفهم كيف يعمل الفساد في العصر الحديث، لا بد أن ينظر إليه بوصفه مؤسسةً لها تقاليدها وقواعدها، لا بوصفه مجرد انحرافات فردية، إن ما نشهده اليوم ليس فسادًا عشوائيًا، بل هو امتدادٌ لعقيدةٍ قديمة تم تحديثها، لتصبح أكثر ذكاءً، وأكثر تنظيمًا، وأكثر قدرةً على التكيف مع متغيرات الزمن، إنها ليست مجرد شبكة فساد، بل مافيا خفية تتحكم في مصير الدول، وتُعيد تكوين السلطة وفقًا لقوانينها الخاصة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة