في هذا المقال أتأمل في طبيعة الوعي الإنساني وطريقة تكوينه وتغيره، ولماذا تمثل مختلف لحظات حياتنا مفاتيح لتوسيع إدراكنا لذواتنا وللعالم من حولنا.
الوعي ليس لحظة انتباه مؤقتة أو فكرة عابرة فحسب، بل هو بوصلة داخلية لكل شخص منا ترشده في درب حياته، وهو أثر مستمر لعلاقة الإنسان بذاته منذ لحظة ولادته إلى آخر يوم في حياته، يتغير وعيه كما تتغير الفصول والأيام.
خلال طفولتنا يكون وعينا بسيطًا نقيًّا مذهولًا منبهرًا بكل شيء جديد يحدث حوله أو يراه، وبمرور الوقت بكِبر الشخص وبفعل تجاربه والأحداث المختلفة التي تحدث معه، تشرع هذه العدسة في الاتساع والكبر حتى أيضًا في التعقيد غالبًا، كما يقول ديكارت: «أنا أفكر إذا أنا موجود» لكنه لم يخبرنا أن هذه الفكرة بحد ذاتها تتغير وتتبدل، وأن وجودنا بحد ذاته يتخذ أنواعًا جديدة مع تطوّر وعينا وإدراكنا.
فمثلًا في حياتنا المعاصرة نجد شخصًا قضى سنوات حياته أغلبها في صخب المدينة، ثم فجأة انتقل للعيش في منطقة ريفية أكثر هدوءًا، ومع مرور الوقت بدأ يشعر بتغيرات داخلية، أصبح أكثر صبرًا وأكثر هدوءًا في تفكيره وأكبر تقديرًا لتفاصيل الحياة البسيطة والبيئة، وإن كان بطريقة غير مباشرة، أُعيد تكوين وعيه.
وخلال الأزمات أيضًا يتغير وعينا بصورة أكثر حدّة، فمثلًا خلال جائحة كورونا واجه العالم أجمع صدمةً دفعت بالملايين لإعادة التفكير والترتيب في أولوياتهم وعلاقاتهم، حتى في مفهوم الحياة والموت لهم، مثلما يقول هايدغر: «القلق يكشف الوجود» وهذا فعلًا ما حدث، إذ تحوّل هذا القلق الجماعي إلى فرصة للتأمل العميق.
لكن هذا لا يعني أنه من الضروري أن نمر بأزمات ليتغير وعينا، فأحيانًا يمكن أن يتغير بعد قراءتنا لكتاب ملهِم أو مرورنا بلحظات ومشاعر حب، أو حتى خيبة أمل بسيطة، فتنفتح لنا أبواب جديدة في دواخلنا، ففي كثيرٍ من الأحيان نسمع عن أشخاص غيَّرتهم كلمة أو جملة أو موقف أو حتى رحلة إلى مكان جديد عليهم.
فالوعي ليس شيئًا نمتلكه، بل هو عملية في نموٍّ مستمر مع كل خطوة نخطوها في هذه الحياة، ونكتسب فيها أبعادًا جديدة في وعينا، لكن الأهم من ذلك هو أن نكون مستعدين دائمًا لمسائلة أفكارنا ومعتقداتنا، وألَّا نخاف من التغيير، فالتغيير في حقيقته هو الدليل على أن وعينا حي.
يقول جلال الدين الرومي: «بالأمس كنت ذكيًا فأردت تغيير العالم، واليوم وأنا حكيم فأغير نفسي» ومن هذه الحكمة البسيطة يمكننا التعمق في عمق أكبر، أن التغير والتحول الحقيقي يبدأ من داخلنا بفهمنا لذاتنا بصورة أعمق، ومن خلال إصغائنا لصوتنا الداخلي بصدق.
في زمن العولمة والسرعة والتشتت، كل شخص منا في أمسِّ الحاجة ليمنح نفسه لحظات من الهدوء والسكون والتأمل ليعرف بها: من هو؟ وكيف تغير؟ وإلى أين سيمضي؟ قد لا يجد إجابة واضحة دائمًا، لكنه بمجرد سؤاله لنفسه بصدق فهذا جزء أصيل من رحلة الوعي لديه.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.