الوعي دون أدوات.. كيف يدرك الإنسان العالم إذا فقد جميع حواسه؟

"تخيل أنك استيقظت فجأة... لا ضوء، لا صوت، لا ملمس، لا حتى إحساس بجسدك. أنت في فراغ مطلق، حيث لا توجد وسيلة لتعرف أين ينتهي العالم وأين تبدأ أنت. الأفكار وحدها هي كل ما تبقى، تسبح في ظلام لا نهائي. هل هذا هو الموت؟ أم إنك ما زلت حيًّا.. قد تظن أن هذا سيناريو خيال علمي، لكنه ليس كذلك. إنه سؤال فلسفي وعلمي محيّر: إذا كان إدراكنا للعالم يعتمد على حواسنا، فكيف يمكننا معرفة أننا موجودون إذا فقدناها جميعًا؟ هل العالم سيختفي؟ أم إن وعينا سيظل حاضرًا؟؟".

الفصل صفر: كيف نحس؟ أسطورة الإدراك

"العالم ليس كما تراه… بل كما يسمح لك دماغك برؤيته". قبل أن نتحدث عن فقدان الحواس، وما الذي سنشعر به إذا فقدناها، دعونا نسأل السؤال المهم لكي نفهم الأمر أولًا: كيف نحس أصلًا؟ كيف يتحول الضوء إلى صورة؟ والموجات إلى أصوات؟ والروائح إلى ذكريات؟

نحن نعيش في عالم مزدحم بالأصوات والألوان والملامس والنكهات والروائح.. لكن هل تساءلت يومًا: هل هذا "العالم" هو الحقيقة أم مجرد تفسير عقلي للواقع؟

1. عندما يتحوَّل الواقع إلى إشارات كهربائية

كل عضو مختص بحاسة معينة، مكلف باستقبال المثيرات الخارجية التي تخصه، مثلًا: استقبال الأصوات خاص بالأذن، والروائح بالأنف، والألوان بالعين، وبعد الاستقبال يحول العضو هذه المثيرات المادية إلى إشارات عصبية كهربائية وينقلها إلى المخ حتى يفهمها؛ لأن المخ لا يفهم سوى لغة الكهرباء والكيمياء.

لا ألوان، لا أصوات، لا روائح حقيقية هناك.. كل شيء يحدث داخل رأسك فقط.

الرؤية؟ ليست سوى موجات ضوئية تسقط على شبكية عينك، تتحوّل إلى إشارات كهربائية، ثم يعيد دماغك بناء الصورة!

"السمع؟ اهتزازات هوائية تُرصَدُ بواسطة شعيرات دقيقة في القوقعة، كأوتار كمانٍ غير مرئي، تُحَوِّل الذبذبات إلى سيمفونية كهربائية!".

اللمس؟ إشارات كهروكيميائية تنتقل من الجلد إلى المخ، ليخبرك: "أنت تلمس شيئًا الآن!".

وهكذا.. كل شيء نحسه ليس هو الحقيقة، بل "تفسير" يقدّمه لنا الدماغ. العالم كما نراه ليس موجودًا هناك.. إنه يحدث داخل عقولنا فقط!

2. خداع الحواس - عندما يختلق الدماغ الحقيقة

حواسنا ليست معصومة.. بل يمكن خداعها بسهولة:

الوهم البصري: لماذا نرى الأشكال تتحرك وهي ثابتة؟ لأن دماغنا "يملأ الفراغات"!

الهلاوس السمعية: لماذا نسمع أسماءنا تُنادى أحيانًا بلا سبب؟ لأن الدماغ يتوقّع الأصوات ويخلقها!

الألم الوهمي: لماذا يشعر بعض مبتوري الأطراف بأطرافهم المفقودة؟ لأن الدماغ لم يدرك بعدُ أن الجسد تغيَّر!

كل هذه أدلة على أن "الإحساس" ليس أكثر من برنامج تشغيل ذكي داخل عقولنا.. فماذا يحدث إذا أطفأنا هذا البرنامج تمامًا؟

3. هل يمكن للعقل أن يحس بلا حواس؟

إذا كنا لا نحس بالعالم مباشرة، بل نعيد بناءه داخل أدمغتنا، فهل يمكن لعقلنا أن يوجد ويدرك حتى لو لم تصله أي إشارات حسية؟

هذه هي رحلتنا القادمة.. نحو العدم الحسي المطلق، حيث لا توجد إشارات، ولا محفّزات، ولا عالم خارجي.. بل وعيٌ محض، عارٍ من كل شيء.

فهل يبقى الوعي؟ أم ينهار؟

الفصل الأول: متاهة العدم - عندما ينطفئ العالم

دعونا نبدأ بتجربة خيالية..

"أنت الآن في قفص أسود. لا فرق بين أن تفتح عينيك أو تُغمضهما، لا صوت، لا إحساس، عدم مطبق؛ حتى أنفاسك تُذوب في الفراغ. هذه ليست غرفة.. إنها مقبرة للإدراك.. كم ستصمد قبل أن يبدأ عقلك في أكل نفسه؟".

ما الذي سيحدث بعد دقيقة؟ ساعة؟ يوم؟ شهر.

تجارب الحرمان الحسي.

العلم يخبرنا أن الحرمان الحسي التام يؤدي إلى اضطرابات عقلية غريبة.

في خمسينيات القرن الماضي، أجرى عالم النفس دونالد هب تجربة على متطوعين عُزلوا تمامًا عن المؤثرات الحسية: لا ضوء، لا صوت، لا ملمس. بعد بضع ساعات فقط، بدأ البعض يرون أشكالًا تتحرك أمام أعينهم المغلقة، وبدأ آخرون يسمعون أصواتًا غير موجودة، وبعضهم دخل في حالات من الاضطراب النفسي العميق.

لكن الأمر لا يتوقف عند التجارب العلمية فقط. هناك من اختاروا طوعًا العيش في عزلة حسية مؤقتة، مثل رواد "أحواض الطفو" التي تغمر الجسم في ماء مملح في ظلام دامس وصمت مطبق. البعض وصف التجربة بأنها تحرر للعقل، في حين آخرون شعروا برعب شديد كأنهم ينزلقون في هوة لا نهاية لها.

وكما نرى في تجارب العزل الحسي، بدأ المشاركون يعانون من الهلوسات، تلاشى إحساسهم بالزمن، وبدأوا يشكّون في واقعهم. أدمغتهم التي اعتادت على تدفق مستمر من البيانات الحسية، بدأت في اختلاق واقع جديد لتعويض النقص.

لكن هذا ليس مجرد تخمين علمي، لدينا حالات حقيقية عاش فيها أشخاص في ظلام وصمت مطبق، ولم يفقدوا وعيهم!

الفصل الثاني: عقول في سجون صامتة - قصص من العالم الحقيقي

(1) هيلين كيلر: عندما تتحدث الروح بلا كلمات

هيلين كيلر، الفتاة التي فقدت السمع والبصر منذ الطفولة، لكنها استطاعت أن تتعلم، وتفكر، وتكتب كتبًا فلسفية! كيف؟ هل يمكن للوعي أن يوجد دون حواس؟

هيلين لم تكن فقط "طفلة معجزة"، بل دليل حي على أن العقل قادر على بناء عالمه الداخلي حتى في غياب الحواس. لقد طوّرت وعيها بواسطة التواصل عبر اللمس، لكنها تجاوزت ذلك إلى مستوى من الفهم العميق للواقع، بل وتحدثت عن أحاسيس لم تختبرها يومًا!

(2) جان دومينيك بوبي: العقل الذي لم يُهزم

في عام 1995 أصيب الصحفي الفرنسي جان دومينيك بوبي بمتلازمة الحبس التام (Locked-in Syndrome). لم يستطع التحرك أو الكلام، لكن وعيه كان سليمًا بالكامل.

العجيب أنه استطاع أن يكتب كتابًا كاملًا باستخدام رمشة عينه الوحيدة!

فكان مساعده يتلو عليه الحروف الأبجدية كاملة وحينما يصل للحرف المراد يرمش، ليتوقف مساعده ويكتبه، وهكذا يعيد الكرَّة، حتى يُكوِّن كلمات وجملًا، إلى أن كتب الكتاب، نعم عملية شاقة بحق، لكن لا مستحيل مع الإرادة.

لكن أصحاب هذين القصتين كان لديهما حواس باقية يستطيعون بواسطتها التواصل مع العالم الخارجي، مثل السمع واللمس، لكن السؤال؟ ماذا لو فقدت جميع الحواس، كيف ستعي وتدرك، والأهم كيف ستتواصل مع العالم الخارجي؟

الفصل الثالث: الوعي دون أدوات - هل الدماغ يحتاج إلى الحواس أصلًا؟

في العلم، نحن نربط دائمًا الوعي بالحواس، لكن ماذا لو لم يكن ذلك صحيحًا؟

1. أحلامنا ليست قائمة على الحواس

عندما تحلم، هل تحتاج إلى عيون لترى؟ أو إلى أذنين لتسمع؟

الأحلام دليل واضح على أن الدماغ يمكنه خلق واقع مستقل تمامًا عن الحواس.

2. الهلوسات في العزل الحسي

في تجارب العزل الحسي، يبدأ الدماغ في "رؤية وسماع" أشياء غير موجودة. لماذا؟ لأنه ببساطة لا يحتاج إلى الحواس ليُنتج تجربة واعية!

3. الوعي في الغيبوبة

بعض المرضى في حالات غيبوبة عميقة أظهروا نشاطًا عقليًا شبيهًا بالنشاط الطبيعي، رغم عدم قدرتهم على تلقي أي معلومات حسية..

وبهذا نفهم أن "الدماغ قادر على خلق واقع كامل دون الحاجة إلى أي محفزات حسية.. لكن هذا يطرح سؤالًا أخطر: إذا لم تكن الحواس هي مصدر الوعي، فأين يوجد الوعي فعليًا؟".

الفصل الرابع: إذا لم يكن الوعي في الحواس.. فأين هو؟

هل من الممكن أن يكون الوعي موجودًا في مكان آخر غير الدماغ؟ الأديان والفلسفات القديمة لطالما افترضت أن الإدراك ليس مجرد تفاعلات كهربائية داخل المخ.

في الفلسفة الإسلامية، يرى ابن سينا أن النفس تدرك ذاتها بذاتها، ولا تحتاج إلى الحواس كي تعي أنها موجودة.

في التصوف الإسلامي، يُقال إن "القلب" هو مركز الإدراك الحقيقي، وليس الدماغ، فحتى لو تعطلت جميع الحواس، يبقى هناك شيء ما قادرًا على الفهم والتواصل مع الحقيقة.

أما ديكارت، فحينما حاول التشكيك في كل شيء، وصل إلى نقطة واحدة لا يستطيع إنكارها: "أنا أفكر، إذن أنا موجود". لكن... هل التفكير يعتمد على وجود الحواس؟

هنا نصل إلى السؤال المثير: إذا لم يكن الوعي يعتمد على الحواس، فأين يوجد؟

الفلاسفة والعلماء اختلفوا حول هذا، وهناك ثلاثة تفسيرات رئيسية:

1. الوعي كظاهرة بيولوجية بحتة

بعض العلماء، مثل فرانسيس كريك (مكتشف الـDNA)، يؤمنون بأن الوعي مجرد تفاعل كيميائي كهربائي في الدماغ، يحدث سواء وُجدت حواس أم لا.

2. الوعي كظاهرة كونية

هناك نظريات حديثة، مثل نظرية بانبسيخيزم (Panpsychism)، التي تقول إن الوعي موجود في كل شيء، حتى في الجسيمات دون الذرية!

3. الوعي كشيء مستقل عن الجسد

بعض الفلاسفة، مثل ديكارت رأوا أن الوعي ليس جزءًا من الجسد، بل شيء منفصل تمامًا، يمكن أن يستمر حتى بعد موت الجسد نفسه، وهذا متفق مع نظرة الأديان للوعي، في أن محله الروح.

"كما تصف الفلسفة الهندوسية الواقع بأنه "مايا" (وهم)، فدماغك هو الإله الخادع الذي ينسج لك أوهام الإدراك!".

الفصل الخامس: ماذا يعني هذا لنا؟

إذا كان الوعي يمكن أن يوجد دون حواس، فهذا يقودنا إلى أسئلة عميقة جدًا:

هل يمكن أن يوجد وعي بعد الموت؟

هل نحن أكثر من مجرد كائنات مادية؟

هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح واعيًا، حتى دون امتلاكه حواس بشرية؟

خاتمة: الإنسان ليس مجرد حزمة من الحواس

الخلاصة: لو فقدنا كل الحواس، بالطبع سنفقد قدرتنا على التواصل مع العالم الخارجي، سننفصل عن كل ما يحيط بنا؛ لكننا بالطبع لن نفقد القدرة على التواصل مع ذواتنا، لن نفقد القدرة على التفكير والوعي في الأقل بأنفسنا؛ حتى لو لم يصل لعقولنا أي محفز خارجي، فسيبقى لديها القدرة على التفكير المستقل عن الحواس، فإذا لم نسمع ونرَ ونحس، بالطبع لن نفقد قدرتنا على الوعي، حتى لو كان وعيًا مبتورًا وناقصًا.

لكن الحواس لها الدور الأكبر في تشكيل وعينا بالتأكيد، فالأفكار هي نتاج لما نقلته الحواس للعقل، أغمض عينيك، وتخيل رؤية لون غير موجود، أو سماع صوت لم تسمعه من قبل، بالطبع لن تستطيع؛ لأن العقل يستقي مخزونه المعرفي من الحواس.

قد تعتقد أنك "تدرك" العالم بواسطة عينيك وأذنيك، لكن الحقيقة أعمق من ذلك. الحواس ليست سوى وسيلة، لكن الوعي هو اللاعب الحقيقي.

وربما، إذا أغلقنا جميع نوافذ الإدراك، سنكتشف أن الوعي ليس في الخارج... بل كان دائمًا في الداخل..

أخيرًا: تأمل!

"إذا كان وعيك قادرًا على البقاء في الفراغ.. فهل أنت بحاجة إلى جسد؟ أم إنك روحٌ تستعير حواسًا مؤقتة"؟

المصادر:

1. Sacks, Oliver. The Man Who Mistook His Wife for a Hat. (1985).

2. Koch, Christof. Consciousness: Confessions of a Romantic Reductionist. (2012).

3. Tononi, Giulio. Phi: A Voyage from the Brain to the Soul. (2012).

4. Noë, Alva. Out of Our Heads: Why You Are Not Your Brain. (2009).

5. Damasio, Antonio. The Feeling of What Happens: Body and Emotion in the Making of Consciousness. (1999).

٦ Anil Seth. (2021). Being You: A New Science of Consciousness.  

٧. - دراسة MIT (2022) عن الوعي في الذكاء الاصطناعي

 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.