عذاب الوعي.. هل العقل نعمة أم نقمة في زمن التريندات؟

ذاتَ مرة، تأملتُ حالَ من حولي ممن أعرفهم، لأتساءل: أيُّهم أكثرُ سعادة؟ فوجدتُ شيئًا غريبًا! دائمًا تجد أن صاحبَ العقلِ والوعي مُتعبٌ، ومُنهك؛ في حين أن محدودُ التفكيرِ راضٍ؛ لأن ما يشغله يتلخَّص في تفاصيل عادية: ماذا سنأكل اليوم؟ هل حقًّا وصل جرامُ الذهب إلى خمسة آلاف؟

شخصٌ بسيط، طموحاته بسيطة، أحلامه لا تتجاوز بيتًا يبنيه، أو زواجًا يطمح إليه، أو استقرارًا ينشده؛ ومشكلاته العظمى لا تخرج عن «قيل وقال» وتدبير المال. لذا، هو مرتاحُ البال.

لكن على النقيض من ذلك، تجد الواعي متعبًا، مثقَلَ الذهن، يحمل من الإدراك ما لا يحمله غيره، ويشغله ما لا يخطر لمحدود التفكير على بال: أبعادٌ، وتساؤلات، واحتمالات، وتحليلٌ لا يتوقَّف.

عند هذه اللحظة، توقفتُ، وسألتُ نفسي: هل يكون وجودُ العقل أحيانًا نقمة؟

هل يمكن أن يضرُّ امتلاكُ عقلٍ واعٍ، صاحبه أكثرَ مما ينفعه؟

هل هو مورث الحيرة ومصدر الضجر؟

وقلتُ في نفسي: يبدو أن المثل الذي تربَّينا عليه، «العقل زينة» ليس صحيحًا بما يكفي. فقد تكون قِلّةُ العقل أزْيَنَ، وأهدأَ، وأقربَ إلى السكينة.

هل سعة الأفق نقمة؟

أحيانًا، يبدو أن أعظم مآسي الإنسان تبدأ من لحظة وُهبت له فيها ميزة التفكير.

تخيَّل أن تُولد ولديك عقل بحجم كوكب، ثم تكتشف أن معظم من حولك يكتفون بالعوم على سطح الحياة، يأكلون ويشربون ويتناسلون ويتابعون «التريند» الأخير، في حين أنت تُحاصر كل ليلة بتساؤلات وجودية تُشبه ما يكتبه سارتر بعد منتصف الليل وهو في مزاجٍ سوداوي.

العقل الهدية المسمومة

العقل، هذه الآلة الدقيقة، القادرة على اختراع الذرة، وتشريح النفس، وصنع البيتزا بالمشروم والأناناس في الوقت ذاته، هو نفسه العقل الذي قد يجعلك تستيقظ في الثالثة صباحًا لتتساءل: هل أنا حقيقي؟ وماذا لو أنني مجرد حلم في رأس قطة نائمة؟

يقول المفكر والفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه في كتابه ما وراء الخير والشر (1886): «الوعي يُعذِّب الإنسان لأنه يُحمِّله عبء الأسئلة التي لا تُطاق».

عذاب الوعي

نيتشه لم يكن يبالغ. لقد كان يُعاني من انهيارات عصبية، وعاش نهاية حياته في مصح عقلي بعد أن سقط في نوبة صراخ أمام حصان يُجلد في شوارع تورينو. ذلك الحصان لم يكن يعرف أنه يُجلد ظلمًا، لكنه نجا من الألم النفسي الذي سقط فيه نيتشه فقط لأنه لا يملك عقلًا بشريًا.

بين من يفكِّر كثيرًا ومن لا يفكِّر أصلًا

في أحد مقاطع الفيديو المنتشرة، يقف شاب على «تيك توك» وهو يُقنع متابعيه أن الأرض مسطحة، وأن الديناصورات خُدعة من هوليود، ثم يرقص على أنغام أغنية «أنا جدع». الغريب أن هذا الشاب يملك ملايين المتابعين، ويُطلق عليه «مؤثر».

في المقابل، هناك رجل في الخامسة والخمسين، يحمل دكتوراة في الفلسفة، كتب كتابًا بعنوان «القلق الوجودي وتاريخ الفكر العربي»، ويعيش على معاش متواضع ويُعاني من الاكتئاب.

هل ضيق الأفق نعمة؟

أحيانًا كثيرة، أحسد صديقي محدود التفكير، حقًا كم هو رائق البال والمزاج، يحدثني في مشكلات تشغله، فأقول في نفسي: «لو مشكلات الدنيا كلها هذه التفاهات، ما تضايقت قط».

خطر التفكير.. عندما يقتلك وعيك

القصة الحقيقية للدكتور «ديفيد فوستر والاس»، الكاتب الأمريكي اللامع، تُعد نموذجًا فاضحًا لكيف يمكن أن يكون العقل مصيدة قاتلة. كتب والاس رواية Infinite Jest، وعدَّه النقاد «أكثر كاتب عبقري في جيله»، لكنه كان يصف يومه في مذكراته قائلًا: «أفكِّر في كل شيء، كل شيء. كيف أتنفَّس؟ لماذا يرمش الناس؟ ماذا لو لم أكن موجودًا؟ كيف أعيش وأنا أعرف أنني سأموت؟».

انتهت القصة بانتحاره في 2008، بعد صراع طويل مع الاكتئاب... وصراع أطول مع عقله.

الوعي المُفرط والقلق الوجودي

الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر كتب في كتابه الوجود والعدم (1943): «الوعي هو ذلك العار الذي لا يفارقنا».

العار؟! نعم، لأنك حين تعي أنك كائن هش، وأن كل ما تحبه سيفنى، وأن العدالة قد تكون وهمًا جميلًا في رواية روسية فقط، فإنك قد تفقد القدرة على الفرح. الوعي يُشبه الكشاف الذي يُضيء كل الزوايا، بما فيها تلك التي كنت تتمنى أن تظل مظلمة.

الوعي يضيء عقلك

هل رجاحة العقل قد تكون مضرة حقًا؟

العقل لا يُعطيك راحة. هو دائمًا يسأل، ويُراجع، ويحلل، ويعيد صياغة السؤال. أما الإنسان «المريح» -الذي يُشبه بائع الطعمية على ناصية شارعنا- فإنه لا يُرهق رأسه بتلك الأسئلة، بل يهتف بسعادة: «الرزق يحب الخفية!». وهو محق، فالرزق غالبًا ما يفرُّ من المفكِّرين.

الإسقاط على زمن التريندات.. عقول مغلقة وصدر منفتح!

في عصر «التريند» أصبح العقل عبئًا، لا أحد يريد أن يسمع تحليلًا عميقًا عن ظاهرة اجتماعية، ولا أحد يُحب أن يُذكِّره أحد بأن «الجهل ليس دائمًا براءة». الناس تُحب «البساطة»، لكن البساطة تحوَّلت إلى نوع من «السطحية الاحترافية».

وفي وسط هذا التيه، من السهل أن ينظر الناس إلى صاحب الفكر، والمُفكر، وصاحب النظرة النقدية، ويقولون عنه: «دمُّه تقيل… مش بيضحك، فلسفي كده على الفاضي»، في حين تُفتح أبواب الشهرة والمجد لراقصة تقدم نصائح في العلاقات، أو لصاحب محتوى «تأمَّل في حبة أرز».

الوعي بين النور والنار

مزيا وعيوب شدة الوعي والإدراك:

جلد الذات: عندما يُصبح العقل سوطًا

العقل لا يتوقف. وأحيانًا يتحوَّل إلى محقق نيابة لا ينام. كل موقف حدث قبل سبع سنوات، كل كلمة قلتها لشخص في لحظة غضب، كل قرار تأخذه اليوم… يعود العقل ليُجري عليه تشريحًا كاملًا في الثالثة صباحًا.

في دراسة أجراها قسم علم النفس في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، عام 2015، تبيَّن أن الأشخاص الذين يميلون إلى الإفراط في التفكير (overthinking) ترتفع لديهم معدلات القلق المرضي بنسبة 73% مقارنة بغيرهم، بل ويُعانون من ما يُعرف بظاهرة «شلل التحليل» (Analysis Paralysis)، وهي حالة يفقد فيها الإنسان قدرته على اتخاذ أي قرار لأنه يُفكِّر أكثر مما يجب.

التفكير المفرط والقلق المرضي

الذكاء الزائد.. سيف على الرقبة. والقدرة على رؤية كل الاحتمالات تجعل الإنسان يفقد القدرة على الاستمتاع بأي لحظة.

خذ مثلًا القصة الحقيقية لـ«هانا بيكر»، الفتاة المراهقة التي ألهمت المسلسل الشهير 13 Reasons Why. لم تكن غبية ولا هامشية، بل كانت فتاة ذكية، واعية، حساسة لكل تفصيلة تحدث حولها. لكنها كانت أيضًا ضحية عقل لم يرحمها، ولا غفَر للمجتمع الذي أهانها، فاختارت أن تُسجِّل رسائل وداع، وترحل.

في كثير من الأحيان، الغباء المُريح يبدو خيارًا قابلًا للعيش أكثر من الإدراك القاتل. وقد عبَّر الدكتور مصطفى محمود عن هذه الهوَّة الفكرية بسهولة دامغة، حين قال في كتابه رحلتي من الشك إلى الإيمان (1970): «كلما ازداد علمي، ازداد شعوري بجهلي... وكلما اتسعت رؤيتي، اتسعت هوَّتي».

العقل لا يكفُّ عن الحفر في أعماق النفس. وإذا حفرت أكثر مما يجب.. قد تصل إلى فراغ مرعب.

الصراع الأخلاقي.. تعرف الصح ولا تقدر عليه

الوعي الأخلاقي المرتبط بالعقل يُحمِّل الإنسان عبئًا لا يُطاق، حين تُدرك أن الظلم كارثة، لكنك غير قادر على تغييره، حين تفهم أنك تتواطأ مع الفساد بالصمت، أو أنك تُشارك في ظلم ما ولو بالسهو، يبدأ صراع داخلي لا يُشفى بسهولة.

في رواية الجريمة والعقاب (1866)، كتب دوستويفسكي شخصية «راسكولنيكوف»، الذي قرر قتل عجوز مرابية لأنه اعتقد أن بعض الناس فوق القانون. بعد الجريمة، ظن أنه سينام قرير العين… لكنه بدلًا من ذلك، دخل في دوامة من الندم والهلوسة حتى سلَّم نفسه. لقد قتله عقله، لا الشرطة.

يقول دوستويفسكي في الرواية: «الضمير… هذا العقرب الصامت الذي يلدغ الروح من الداخل».

وهذا هو لبُّ الموضوع: العقل ليس فقط أداة فهم، بل أداة تعذيب داخلية.

جنون العباقرة.. لمَ العقل إلى الضياع

في كتابه Touched with Fire (1993)، أجرت الباحثة الأمريكية كاي ريدفيلد جاميسون -المتخصصة في الطب النفسي بجامعة جونز هوبكنز- دراسة على عدد من كبار المبدعين، وخلصت إلى نتيجة مروعة: «يوجد ارتباط وثيق بين الإبداع العالي والاضطراب الوجداني ثنائي القطب».

بمعنى آخر: كثير من العباقرة، والمفكرين، والكتَّاب، والمخترعين، يعانون داخليًا. العقل الذي يضيء العالم من الخارج، يُشعل النار في صاحبه من الداخل.

هل سمعت عن فان غوخ؟ راسم أجمل لوحات الشمس والحقول. حياته كانت كابوسًا من الاكتئاب، وانتهى بطلقة في الصدر.

لوحات فان غوج والاكتئاب

قال في إحدى رسائله لأخيه ثيو: «أحاول ألا أفكر كثيرًا، لأن في التفكير خرابًا لا يُحتمل».

الغباء السعيد أو سعادة الجهل

في دراسة نُشرت بمجلة Intelligence (المجلد 40، العدد 6، عام 2012)، أظهرت النتائج أن الأشخاص الأقل ذكاءً -بحسب مقاييس الذكاء التقليدية- يُسجلون معدلات أعلى من الرضا عن الحياة. ما السبب؟

بساطة التوقعات، وضآلة الأسئلة، وضيق دائرة الاهتمام.

الشخص الذي يعيش يومه كما هو، يضحك في مباراة كرة قدم، ويتابع «أخبار المشاهير»، وينام دون أن يسأل «هل نحن في محاكاة؟»، يعيش أطول وأفضل.

وها نحن، بعد رحلة فكرية لم تخلُ من الحيرة والدهشة، نقف أمام هذا السؤال الجريء:

هل العقل نعمةٌ أم نقمة؟

ربما ليس علينا أن نختار إجابة قاطعة، فالحقيقة -كما هي عادةً- أكثر تعقيدًا من أن تُحبس بين «نعم» و«لا».

العقل، يا صاحبي، كأنه سيفٌ ذو حدَّين؛ يُمكن أن يُنير لك الطريق، أو يُمزِّقك من الداخل… كلٌّ حسب طريقة استخدامه، ودرجة تحمُّله.

العقل سيف ذو حدين

الغاية من هذا المقال لم تكن الترويج للجهل، ولا الدعوة لكراهية التفكير، بل هي محاولة صادقة لفهم ثمن الوعي… ذاك الثمن الذي لا يُكتب في فاتورة، لكنك تدفعه في هيئة أرقٍ، وعُزلة، وأسئلة لا تنتهي.

ربما علينا أن نُعيد النظر في الطريقة التي نُربي بها عقولنا، وفي الفخ الذي نُسقط فيه كل من يفكِّر كثيرًا فنقول له: «كفاك تعقيدًا!».

فليست البساطة دائمًا سعادة، ثم إن التعقيد ليس دائمًا مأساة.

وإن كان لا مفر من العقل، فربما المفرُّ الحقيقي يكمن في التوازن: أن تفكِّر دون أن تهلك، أن تسأل دون أن تغرق، أن ترى العالم بعيون مفتوحة دون أن تنسى أن تُغمضها أحيانًا.. لترتاح.

فيا مَن أرهقه عقله، لا تكره نعمتك، لكن لا تتركها تأكلك أيضًا.

ولك أن تتذكَّر: ليس كل من لا يُفكِّر سعيدًا.. وليس كل من يُفكِّر تعيسًا.

لكن المؤكد: أن «العقل» إن لم تروِّضه.. ركبك.

فهل نملك عقولنا؟ أم هي التي تملكنا؟

دع هذا السؤال مفتوحًا.. فقد تكون الإجابة، هي أول خطوة نحو السلام.

المصادر والمراجع

  • نيتشه، فريدريش. ما وراء الخير والشر، ترجمة: محمد الناجي، دار التنوير، بيروت، الطبعة الثانية، 2010.
  • دوستويفسكي، فيودور. الجريمة والعقاب، ترجمة: سامي الدروبي، دار التنوير، بيروت، الطبعة الثالثة، 2012.
  • سارتر، جان بول. الوجود والعدم، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، 1980.
  • Jamison, Kay Redfield. Touched with Fire: Manic-Depressive Illness and the Artistic Temperament. Free Press, New York, 1993.
  • Wallace, David Foster. Infinite Jest. Little, Brown and Company, Boston, 1996.
  • University of California, Berkeley. "Overthinking and Anxiety Disorders: Neural and Behavioral Correlates." Department of Psychology, 2015. (دراسة منشورة ضمن أرشيف الجامعة – لم تُنشر ككتاب).
  • Intelligence Journal, Volume 40, Issue 6, 2012: "The relationship between intelligence and life satisfaction."

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.