يوجد أشخاصٌ يجيدون بيع الأوهام بوعودهم الكاذبة، يطلقونها بسهولة ثم يختفون وكأنَّ شيئًا لم يكن، تاركين خلفهم خيبة الأمل والخذلان. يُخلِفون مواعيدهم، يتهربون من التزاماتهم، ويبررون تصرفاتهم بعباراتٍ جوفاء لا تعيد الوقت الضائع ولا تصلح ما أفسدوه.
الوعد ليس مجرد كلمات، بل التزامٌ يظهر مصداقية صاحبه، وإخلافه ليس فقط علامةً على الكذب، بل هو دليلٌ على الأنانية وعدم احترام الآخرين. ومن يكرر هذا السلوك لا يستحق الثقة؛ لأن الكلمة دون فعل تفقد قيمتها، وتتحول إلى سرابٍ لا يُسمن ولا يُغني من انتظار.
الناس قد يسامحون مرةً أو مرتين، لكنهم لا ينسون من خذلهم مرارًا. فحين تفقد مصداقيتك، لا تلُمْ الآخرين إن لم يعودوا يصدقونك، بل راجع نفسك: لماذا تعد بما لا تستطيع الوفاء به؟
فنوعيةٌ البشر التي تجيد توزيع الوعود كما يوزع بائع الحلوى قطع السكاكر على الأطفال، كلماتهم معسولة، تبدو لامعةً مغرية، لكنك ما إن تضعها في فمك حتى تكتشف أنها جوفاء، بلا طعم، بلا قيمة. هؤلاء يعدون بكل شيء ولا يوفون بأي شيء، يبيعونك الأمل الرخيص، ثم يختفون حين يحين وقت السداد.
إنهم يشبهون السماء الملبدة بالغيوم التي توحي بالمطر لكنها لا تمطر، أو كحافلةٍ تقف عند المحطة ويظن الجميع أنها ستقلهم، لكنها تنطلق فارغةً دون أن تفتح أبوابها.
الوعد دينٌ.. وليس لعبة
الوعد ليس مجرد كلماتٍ تُقال وتُنسى، إنه التزام، عهد، دينٌ في رقبة صاحبه. الشخص الذي يطلق وعودًا في الهواء ولا يفي بها كالمفلس الذي يوزع الشيكات دون رصيد، في البداية قد يصدقه الناس، لكن مع مرور الوقت، يسقط قناعه، ويدرك الجميع أنه مجرد بائعٍ للوهم.
النبي ﷺ قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (متفق عليه). وهذا ليس كلامًا نردده بلا معنى، بل وصفٌ دقيق لمن يجعل الوعود لعبةً، يتسلى بها على حساب مشاعر الآخرين وثقتهم.
الله تعالى قال في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (سورة الصف: 2-3).
الله نفسه يكره أن يقول الإنسان ما لا يفعله، فكيف نتوقع أن يحبنا الناس إن كنا نفعل ذلك مرارًا وتكرارًا؟
لماذا تفعل ذلك؟
لماذا تعد وأنت تعلم أنك لن تفي؟ هل هو حب السيطرة؟ هل تستمتع برؤية الناس ينتظرونك ويتأملون فيك خيرًا في حين أنت تعرف أنك لن تفعل شيئًا؟ أم أنك فقط اعتدت الكذب حتى أصبح يجري في دمك؟
يوجد أشخاصٌ يطلقون الوعود نوعًٍا من المجاملة الفارغة، يعدك بالزيارة وهو يعلم أنه لن يأتي، ويعدك بالمساعدة وهو لم يفكر أصلًا في تقديمها، ويعدك باتصالٍ قريب وهو لا ينوي حتى البحث عن هاتفه. لكن هل فكَّر هذا الشخص كيف تؤثر كلماته علينا؟ كيف نعتمد على وعوده، نؤجل خططنا من أجله، ننتظر ونتوقع، ثم نجد أنفسنا في مواجهة الهواء؟
الشخص الذي يُخلِف وعده ليس فقط كاذبًا، بل أنانيٌّ أيضًا. هو لا يهتم بمشاعرك، لا يهتم بوقتك، لا يهتم بالجهد الذي تبذله اعتمادًا على كلماته، كل ما يهمه هو أن يبدو جيدًا للحظة، ثم ينسحب كأن شيئًا لم يكن.
أمثلةٌ من الواقع
الصديق الذي يحدد موعدًا ولا يأتي
تجهّز، ترتب وقتك، تنتظره، تمر الدقائق، ثم الساعات، ثم الأيام، ولا يظهر. وحين تسأله لاحقًا، يبتسم وكأنَّ شيئًا لم يكن، ويردد كلمةً واحدة: "آسف". لا، عزيزي، "آسف" لا تعيد الوقت الذي ضيّعته بسببك.
الشخص الذي يعدك بالدعم ثم يختفي
"أنا معك"، "لا تقلق، سأساعدك"، "إن احتجت شيئًا، فقط أخبرني". لكن حين تأتي لحظة الحقيقة، تجد نفسك وحدك تمامًا، في المقابل هو يعيش حياته وكأنه لم يعدك بشيء، بل ربما نسي حتى إنه نطق بهذه الكلمات الفارغة.
المدير الذي يعدك بزيادة راتبك لكنه لا يفعل
كل شهر، تضع أملك في كلماته، تعمل بجد، تتحمّل الضغط، وتقول لنفسك: "سيأتي اليوم الذي يفي فيه بوعده". لكن الأشهر تتحول إلى سنوات، والزيادة الوحيدة التي تحصل عليها هي في استغلاله لك، لا في راتبك.
الشخص الذي يعدك بأنه سيتغير لكنه لا يفعل
يكرر الأخطاء نفسها ثم يعتذر ويعد بأنه سيتغير، لكنه يعود لنفس السلوك مرةً بعد مرة، وكأنه يراهن على أنك ستنسى وستسامح وستمنحه فرصةً أخرى.
لم نعد نصدقك.. وهذه ليست مشكلتنا
في البداية، كنا نصدقك. كنا نعطيك الفرصة تلو الأخرى، نحسن الظن، نقول: «ربما هذه المرة مختلفة». لكن بعد أن خذلتنا عشرات المرات، لا تلُمْنا إن لم نعد نثق بك. أنت من علمتنا ذلك.
أنت من جعلتنا نتوقف عن انتظار مكالمتك، عن تصديق وعودك، عن بناء خططنا على كلماتك. لقد استنزفت كل الفرص، وأحرقت كل الجسور، فلا تسألنا لماذا تغيرنا، لماذا أصبحنا باردين تجاه كلماتك، لماذا لم نعد نُصدِّق ابتسامتك وأنت تكرر نفس الوعود الواهية.
الوفاء بالوعد ليس رفاهية، إنه مقياسٌ للمروءة والشرف، فإن لم تكن قادرًا على الوفاء، فلا توزع الوعود كأنها أوراق يانصيب. نحن لم نعد نشتري الأوهام.
أثرت موضوع مهم ربنا يوفقك دوما
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.