تطورت الخطابة بعد الإسلام تمامًا كما تطور الشعر، وظهرت موضوعات جديدة اجتماعية ودينية وسياسية، وقد عدّ البلاغيون القدامى الخطابة أحد مقامات إنتاج القول الأدبي، وارتبط تعريف الخطابة بالبرهان الخطابي، واتسع الفضاء الخطابي في القرن الأول الهجري بسبب المناخ السياسي والمذهبي.
يسهم تحديد نمط النص الخطابي في تحليل خصائص النص، وتعد الوصية من أبرز الأنماط الأدبية، وتشترك النصوص التي تحوي وصايا وخطبًا سواء دينية أم سياسية أم عسكرية في جملة من الخصائص.
تتميز الوصية عن الخطبة سواء الخطبة الوعظية أم العسكرية بمخاطبة المفرد الذي غالبًا ما يكون الابن أو خليفة الموصي أو أحد قادته العسكريين وغير ذلك، ويمكنك الاطلاع على أشهر الخطباء العرب في الجاهلية، للاستزادة من هذا الموضوع.
الوصية هي خطاب سواءً كان شفويًا أم كتابيًا، وسواء كان نصًا شعريًا أم نثريًا موجه للمخاطب، وهي تتضمن حث المخاطب -سواء كان المخاطب مفردًا أم جمعًا- على أداء عمل ما في المستقبل.
والوصية هي ما يوصى به، وجمعها وصايا، وفي اللغة: يقال أوصى فلانًا؛ أي جعله وصيّه، فيتصرف في أمره وماله بعد وفاته، وأوصى إلى فلان؛ أي عهد إلى فلان، وأوصى لفلان بشيء؛ أي جعل الشيء لفلان، وأوصى به فلان؛ أي استعطف فلانًا عليه، وأوصى فلانًا بالشيء؛ أي أمره بالشيء وفرضه عليه.
ويقال وصَّى إليه وله بشيء؛ أي جعل الشيء له، ووصَّى فلانًا وإليه؛ أي عهد إليه، ووصَّى فلانًا؛ أي جعله وصَّيه يتصرف في أمره وماله وعياله بعد وفاته، ووصَّى بالشيء فلانًا؛ أي أمره به وفرضه عليه.
إذن فالفعل أوصى يدل على نصح المخاطب بأمر ما وإلزام المخاطب وحضه على ذلك الأمر، بالإضافة إلى أن للفعل أوصى أهميةً ودلالةً فقهيةً في القرآن الكريم، كما في الآيات (240) من سورة البقرة، و(11 و12) من سورة النساء، و(106) من سورة المائدة؛ فكل آية تتضمن بعض أحكام الإرث.
تقسيم الوصايا حسب البناء
يمكن تقسيم الوصايا حسب البناء الفني إلى:
1. الوصايا العامة التي لا ترد في مقام الوصية فعلًا، ويخاطب فيها المفرد أو الجمع، وتتشابه مع الخطب الوعظية في بعض الخصائص.
2. الوصايا المحددة التي ترد في مقام الوصية فعلًا، وتختلف تمامًا عن الخطب، فتتضمن عناصر متصلة بمقام الوصية، وغالبًا ما تكون الصلة بين الموصي والمخاطب صلة استخلاف، وقد يصرح الموصي باسم المخاطب مستخدمًا إحدى الخصائص البنائية والأسلوبية في اللغة العربية، كأسلوب النداء، أو قد يستخدم أسلوب الأمر وتكليف المخاطب بأمر ما.
تائية أبي إسحاق الألبيري
ومن أجمل الوصايا الشعرية ما كتبه الشاعر الأندلسي إبراهيم بن مسعود بن سعيد المعروف بأبي إسحاق التجيبي الألبيري في تائيته.
يقول موصيًا وناصحًا ابنه أبا بكر بطلب العلم:
أبا بكر دعوتك لو أجبتا ***** إلى ما فيه حظك إن عقلتا
إلى علم تكون به إمامًا ***** مطاعًا إن نهيت وإن أمرتا
وتجلو ما بعينك من غشاها ***** وتهديك السبيل إذا ضللتا
وتحمل منه في ناديك تاجا ***** ويكسوك الجمال إذا اغتربتا
ينالك نفعه ما دمت حيًا ***** ويبقى ذُخره لك إن ذهبتا
والعمل بذلك العلم وتقوى الله، قائلًا:
وإن أوتيت فيه طويل باعٍ ***** وقال الناس إنك قد سبقتا
فلا تأمن سؤال الله عنه ***** بتوبيخ علمت فهل عملتا
فرأس العلم تقوى الله حقا ***** وليس بأن يقال لقد رأستا
وترك الحزن على فوات الحظ من الدنيا، قائلًا:
ولا تحزن على ما فات منها ***** إذا أنت في أُخراك فُزتا
فليس بنافع ما نلت فيها ***** من الفاني إذا الباقي حُرمتا
وأهمية سؤال الله التوفيق ومدوامة ذكره تعالى، قائلًا:
وسل من ربك التوفيق فيها ***** وأخلص في السؤال إذا سألتا
وناد إذا سجدت له اعترافًا ***** بما ناداه ذو النون بن متى
ولازم بابه قرعًا عساه ***** سيفتح بابه لك إن قرعتا
وأكثر ذكره في الأرض دأبا ***** لتذكر في السماء إذا ذكرتا
ثم يستدرك الألبيري على لسان أبي بكر معاتبًا نفسه على التقصير، قائلًا:
وقل لي يا نصيح لأنت أولى ***** بنصحك لو بعقلك قد نظرتا
تُقطعني على التفريط لومًا ***** وبالتفريط دهرك قد قطعتا
وفي صغري تخوفني المنايا ***** وما تجرى ببالك حين شحنتا
وكُنت مع الصبا أهدى سبيلًا ***** فما بالك بعد شيبك قد نُكستا
وها أنا لم أخض بحر الخطايا ***** كما خُضتَهُ حتى غرقتا
ثم يقول على لسان أبي بكر:
وتشفق للمُصرّ على المعاصي ***** وترحمُهُ ونفسك ما رحمتا
ثم يرد على ما جاء على لسان أبي بكر قائلًا:
أبا بكر كشفت أقل عيبي ***** وأكثره ومعظمه سترتا
فقل ما شئت فيّ من المخازي ***** وضاعفها فإنك قد صدقتا
ومهما عبتني فلفرط علمي ***** بباطنتي كأنك قد مدحتا
فلا ترض المعايب فهي عار ***** عظيم يورث الإنسان مقتا
ثم يخاطب ابنه أبا بكر بأهمية الأخذ بتلك النصائح، قائلًا:
جمعت لك النصائح فامتثلها ***** حياتك فهي أفضل ما امتثلتا
ثم يقول:
فلا تأخذ بتقصيري وسهوي ***** وخذ بوصيتي لك إن رشدتا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.