نشرت القصة القصيرة «اليارد» للكاتب «طارق ناجح» في 3 صفحات 45- 47 بالعدد الثالث 2019/ 2020 لمجلة «سِشات الثقافية»، وهي مجلة فصلية تصدر عن إقليم جنوب الصعيد الثقافي، التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة - وزارة الثقافة المصرية.
اقرأ أيضًا مؤلفات يحيى حقي وأشهر أعماله ورواياته
أحداث قصة اليارد
ترصد القصة ماذا حدث مع بطلها "يوسف" ابن إحدى قرى محافظات شمال الصعيد، ما بين عامي 1997- 1998، وموت والده وهو في الصف الثالث الثانوي، وهو ما زال في الثانية والأربعين من عمره، وعلى هذا فالمعاش الذي تحصل عليه والدته قليل، ثم التحاقه بإحدى كليات جامعة حلوان بالقاهرة، وانتهائه من العام الجامعي الأول، والتحاقه بالعمل فرد أمن بإحدى شركات البترول، وذلك خلال الإجازة الصيفية ليساعد أمه في المصروفات.
الشاب يوسف
يوسف نموذج للشاب المسؤول، فبدلًا من رجوعه لقريته لقضاء الإجازة الأولى له ما بين عامه الأول والثاني بالجامعة، فضَّل البحث عن عمل، وأن يظل بالقاهرة لتدبير مصروفات العام الدراسي التالي، ويعفي أمه من النفقات، ويصور لنا الراوي للقصة بعين «يوسف» جغرافية الأماكن التي عاش فيها ودارت فيها أحداث القصة، وكانت محل الإقامة والسكن أو العمل بها، وهي معصرة حلوان، عرب المعادي، زهراء المعادي، بالطبع قد تغيرت تلك الأماكن الآن من جهة الشكل والوصف حاليًّا بعد مرور ربع قرن من الزمان.
تسبب وفاة أي شخص مقرب لنا أجواء حزن تعم المكان الذي نحيا به، إضافة إلى شعورنا باضطرابات نفسية شديدة، نثور لأبسط الأسباب كما قد نكتئب وننطوي على أنفسنا، لقد رحل والد «يوسف» وتركه وهو (مبهور الأنفاس، مشوش الإحساس..) فقد كان رفيقه وصنو روحه، فالحزن عند الكبار يعد مرحلةً يمكن التعامل معها بسهولة غالب الأحيان، لا سيما مع وجود حياة أخرى، منفصلةٍ عن حياة الأسرة الأصلية، في حين يعد الحزن عند الأطفال والمراهقين عند رحيل الأب صدمةً نفسية، وفكرية، ووجودية.
اقرأ أيضًا فيلم Onward مترجم.. ملخص واقتباسات وقصة الفيلم
ما المقصود باليارد؟
وكان المقصود بعنوان القصة «اليارد» اسم مكان ومقر شركة صحاري للخدمات البترولية «يارد سابسكو»، وكلمة «اليارد» هي كلمة إنجليزية «Yard» وتعني «الفناء»، وهي قطعة أرض تبلغ نحو 3 أفدنة من الأرض، وقد حصل «يوسف» على وظيفة فرد أمن في اليارد هذا، عن طريق قراءته الإعلانات المبوبة بجريدة الأهرام، إذ كانت الوظائف في ذاك الوقت يُعلن عنها ويتعرف عليها الباحثون عن عمل بتصفح الصحف وإعلانات الوظائف بها، وكانت أهمها صحيفة الأهرام، وبالأخص أهرام الجمعة، بالطبع تغير الأمر مع ظهور وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي والإعلانات الممولة، إذ يصل الإعلان لكل شخص على تليفونه المحمول.
البطالة
تتناول قصة «اليارد» قضية البطالة لدى الشباب، وأهمية العمل والغربة للحصول على لقمة العيش، ففي أثناء عمل «يوسف» فرد أمن قابل «آسر» وهو صعيدي مثله، ولكنه من إحدى مدن شمال الصعيد، في حين «يوسف» من إحدى قراها، ولكنه يكبره بنحو 10 سنوات، وكان عائدًا لتوه من العاصمة الأردنية بعد أن قضى عامًا كاملًا هناك خالي الوفاض، وقبلها ظل عقدًا من الزمان جالسًا على المقهى بعد أن أدى خدمته العسكرية مدة عامين؛ لأنه حاصل على مؤهل متوسط (دبلوم ثانوي فني).
وما لفت انتباه يوسف في سلوكيات آسر هو أنه يحيا حياة مملوءة بالإسراف المفرط في الإنفاق كأنه أحد الأمراء أو السلاطين، من شراء المأكل والملبس والمشرب حتى الكتب من روايات ودواوين شعرية رغم ضعف الدخل، في حين يعرف بين الناس أنه يعيش بالطول والعرض غير مهتم لما هو قادم من أيام مستقبلية، وهو شاب قد بلغ الثامنة والعشرين من عمره!! وكان آسر يعيش بالحب وللحب، فعلى الرغم أنه كان على علاقة بفتاة أرستقراطية من سكان المعادي، وسيدة شابة متزوجة من سُكان البساتين، فإنه لا يتحدث أبدًا عنهما لأنه يعدهما سره المكنون.
اقرأ أيضًا 3 قصص للأطفال قبل النوم.. تعرف عليهم الآن
إشكالية في القصة
تعرضت القصة لإشكالية تقاضي شركة الأمن من شركة البترول ألف جنيه شهريًّا عن كل فرد أمن، في حين شركة الأمن تعطي للفرد 250 جنيهًا فقط، أي ربع المبلغ الأصلي الذي تمحنه شركة البترول، وتأخذ شركة الأمن ثلاثة أرباع المبلغ، علمًا بأن «يوسف» كان يسكن بحجرة بمعصرة حلوان إيجارها الشهري 25 جنيهًا.
كتب المؤلف على لسان الراوي ما نقله لنا عن البطل «آسر» الذي (كان هو الوحيد من وردية الليل الذي يظل متيقظًا حتى الصباح، متجولًا في أنحاد «اليارد» كشبح يبحث عن خله في دياجير الليل مرددًا مع شاعرنا الكبير فاروق جويدة)، اللافت لي بصفتي قارئًا ومتلقيًا للقصة، أن الكاتب كتب الأبيات الشعرية وقصيدة جويدة داخل متن النص السردي، كمن يقول بأن البطل يسمع للأغنية «كذا» للمطرب أو المطربة «س» كلمات الشاعر «ص» وبعدها سطر جميع كلمات الأغنية، فهل نحكم على الكاتب «طارق ناجح» صاحب قصة «اليارد» بأنه كتب الأبيات الشعرية لتوظيفها بالقصة وحاجة النص السردي لها، أما أنها حشو وزيادة غير مستحبة داخل المتن القصصي؟! فعلًا إنه أمر محير!!
ويرصد القاص وسيلة الاتصال التليفوني في ذاك التوقيت، بكيفية تواصل الشابة المتزوجة بآسر، إذ كانت دائمة الاتصال به ليلًا على تليفون «اليارد» الأرضي (الذي كان يُغلق قرص الأرقام به بقفل حتى لا يستخدمه أحد في الاتصال، فلقد كان التليفون المحمول في شهور الحمل الأولى، فقد خرج للدنيا وبثت الخدمة عام 1998م لرجال الأعمال وأصحاب الملايين الذين يستطيعون شراء خط بآلاف الجنيهات في ذاك الوقت، وقد كانت هذه الآلاف القليلة ثروة طائلة لمحدودي الدخل).
شجار بين جلال وآسر
هل المبادئ والقيم والأخلاق تتجزأ؟! وهل تُقيَّم بمكيالين؟! بالطبع لا، هنا حكى لنا البطل «يوسف» رأيه الشكلي والموضوعي في «جلال» رئيس الوردية الليلية (وقد كان جلال «جاويش» على المعاش، شَاَب منه الشعر، ولأنه متوسط الطول، فلا يزال يحتفظ ببعض اللياقة البدنية، ولكن حدث ما جعلهم يتحققون أنه ليس لديه أي لياقة أخلاقية، وأنه عجوز متصابٍ، لم تستطع عشرات السنين والشعر الأبيض أن تضفي عليه شيئًا من الوقار ورجاحة العقل)، فماذا حدث حتى يصفه «يوسف» بكل هذه الصفات؟! «وذات ليلة وهُم مجتمعون بغرفة الحراسة بالبوابة الرئيسة لشرب الشاي وتناول العشاء، الذي كان بعض الخبز والجبن للمغتربين أمثال يوسف وآسر»، إذ إن الوردية تتكون من 5 أشخاص: «جلال» رئيسها وأربعة آخرون هم «يوسف، وآسر، وحسن، وسعيد».
بالطبع يحكي لنا الراوي تفاصيل المشهد بدقة متناهية، كأنه يريد تسجيل سيرة ذاتية داخل القصة القصيرة، «وفجأة علا صوت رنين التليفون مُعلنًا أنه يوجد شخص ما على الطرف الآخر يريد محادثة أحدهم، ولأن جلال كان جالسًا على المكتب، رفع السماعة، كانت على الطرف الآخر الشابة المتزوجة، تريد محادثة آسر كالعادة، ولكن فوجئ الحاضرون برد فعل جلال عندما قال لها: مينفعش أنا...»، وكما هو متوقع سوف تقوم مشاجرة حتمية بين جلال وآسر، على اعتبار أن ما فعله جلال محرم وغير أخلاقي، وما يفعله آسر حلال ومشروع «هنا ثارت ثورة آسر، فانتزع السماعة من يده وأنهى المكالمة، معنفًا جلال، وكأنه طفل أتى أمرًا إدًّا: إنت راجل قليل الأدب ومش محترم، الست دي مش عاهرة، ولو عاهرة فهي عاهرتي أنا بَس، فاهم، لولا إنك راجل كبير، أنا كنت عرفت أرد عليك كويس»!!
بالطبع جاء الحوار بلهجة عامية مصرية تتناسب مع مستواهم التعليمي والأخلاقي، وبكل تأكيد الاثنان على خطأ، فليس معنى أن آسر شاب أعزب في العشرينيات من عمره وجلال رجل ستيني يكبره بضعف عمره، أي أنه في عمر والد آسر، أن نحكم على «جلال» بأنه مخطئ لأنه شيخ كبير، وآسر غير مخطئ لأنه شاب صغير!!
وجاء دور يوسف لاحتواء الموقف المشتعل «أخرج يوسف سيجارة من جيبه وأشعلها معطيًا إياها لآسر، جاذبًا إياه من ذراعه ليبتعدا عن المكان»، من هذا المشهد عرفنا أن «يوسف» الشاب الصعيدي والطالب الجامعي هو الآخر مدخن للسجائر كزميله بالعمل «آسر إبراهيم»، ومرت شهور الصيف وجزء من الخريف وعاد يوسف لدراسته بالكلية في شهر أكتوبر 1998 بعد أن ذهب للشركة لأخذ باقي مستحقاته.
نهاية القصة
وجاءت نهاية القصة لتؤكد أن الكاتب «طارق ناجح» لم يذكر التواريخ والشهور والمواقيت عشوائيًّا، بل كان الأمر مقصودًا، وما القصة إلا لمحة سردية للبطل «يوسف» في مرحلة من مراحل عمره، أو بالأحرى عام ميلاد بدأ من نهاية الثانوية العامة حتى بداية العام الجامعي الثاني له، ساردًا لنا ماذا فعل في عامه الجامعي الأولى وإجازته الصيفية الأولى ما بين الفرقتين الأولى والثانية بالكلية، فقد اختتمت القصة بأمنية ليوسف بأن يلتقي «آسر» مرة أخرى قائلًا: «ولكن متى حققت الدنيا آمالنا؟ لا بد وأنه بعد مرور كل هذه السنوات أصبح في الخمسين من عمره، ترى ماذا يفعل الآن؟ يجلس وقت الغروب في شرفة منزله يحتسى الشاي ويدخن سجائره المفضلة، ويسرح بنظره بعيدًا مع الأفق متذكرًا تلك الأيام الخوالي عندما كان يتجول طوال الليل باليارد»، وحينئذ يظهر لنا جليًّا أن تلك القصة كتبت في عام نشرها نفسه بمجلة «سِشات الثقافية» عام 2020، وقد مر 22 عامًا على أحداث تلك القصة التي كانت في صيف 1998 وقتما كان عمر «آسر» 28 عامًا، حتى أصبح اليوم -أي وقت كتابة ونشر القصة- عمره 50 عامًا، وبالطبع أصبح عمر «يوسف» 40 عامًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.