الوحدة في زمن التواصل.. كيف أصبحنا أكثر عزلة؟

نعيش اليوم في عالم مترابط أكثر من أي وقت مضى، فلم يعد حاجز زماني أو مكاني بين الأفراد، فبضغطة زر يمكننا الوصول إلى أي شخص، في أي مكان، وفي أي وقت، ومع ذلك، يُسجَّل تزايدٌ مقلق في معدلات الشعور بالوحدة والعزلة النفسية، خاصة بين فئة الشباب، فكيف أصبحنا نشعر بالوحدة ونحن محاطون بالآلاف من الأصدقاء والمتابعين؟ وهل العالم الرقمي ساعدنا فعلًا على الاقتراب من بعضنا، أم أنه عمّق غربتنا عن ذواتنا وعن الآخرين؟

شبكات التواصل.. علاقات بلا جذور

إن الفضاء الرقمي، بما فيه من وسائل تواصل اجتماعي، منحنا القدرة على التعبير الفوري، والانتشار السريع، والتفاعل اللحظي، لكنه -في المقابل- خلق نوعًا جديدًا من العلاقات، تقوم على السرعة، والتقاطع السطحي، والتمثيل، فلم نعد نتواصل من أجل الفهم، بل من أجل الظهور، وأصبحت الصور أهم من المشاعر، والردود السريعة تغني عن الحوارات العميقة، والعدد يفوق الجودة.

هذا الزيف في التواصل، جعل الإنسان يشعر أنه محاط بالبشر رقميًّا، لكنه وحيد شعوريًّا، فالعلاقة التي لا تُبنى على صدق وتجربة حقيقية، لا يمكنها أن تخفف وطأة الوحدة، بل قد تزيدها.

الانعزال خلف الشاشات

بات كثير من الناس يفضلون العلاقات الافتراضية على الواقعية، والحوارات النصية على الكلام المباشر، ولم يعد الأمر مجرد ترف أو عادة، بل أصبح سلوكًا اجتماعيًا عامًّا. في المقاهي، في البيوت، في وسائل النقل، تجد الجميع ينظرون في هواتفهم، وكأنهم يعيشون حياة أخرى هناك، في حين تغيب عنهم الوجوه الحقيقية.

بات كثير من الناس يفضلون العلاقات الافتراضية على الواقعية والحوارات النصية على الكلام المباشر

هذا الانسحاب من الواقع لمصلحة العالم الرقمي، جعل الإنسان يعيش في فقاعة من التأثيرات السطحية، والمقارنات الاجتماعية التي لا تنتهي، فأنت ترى الآخرين في أجمل حالاتهم، وتظن أن حياتك وحدها رمادية، فتزداد شعورًا بالانفصال.

الوحدة.. مرض العصر

تُظهر دراسات اجتماعية حديثة أن الوحدة أصبحت من أبرز الأسباب المؤدية إلى الاكتئاب، والقلق، وحتى الوفاة المبكرة، بل إن بعض الدراسات شبّهت تأثير العزلة الاجتماعية بالتدخين المزمن، وقد عُيّن وزراء لـ"شؤون الوحدة" في بعض الدول، كالمملكة المتحدة، نظرًا لما تسببه هذه الظاهرة من أزمة إنسانية صامتة.

هل فقدنا القدرة على بناء العلاقات العميقة؟

ربما أخطر ما يهدد المجتمع اليوم، ليس فقط التفكك الظاهري للعلاقات، بل فقدان القدرة على بناء روابط حقيقية، فالفرد المعاصر يتجنب المواجهة، ويفضل الانسحاب على المواجهة، ويبحث عن القبول بدل الانتماء، فيصبح عاجزًا عن تكوين صداقة صلبة، أو علاقة عاطفية ناضجة، أو حتى حوار مع شخص يختلف معه في الرأي.

هل من طريق للخروج؟

إن مواجهة الوحدة تبدأ بإعادة النظر في علاقتنا بذواتنا أولًا، ثم بالآخرين، فلا غنى عن التكنولوجيا، لكنها يجب أن تكون وسيلة، لا غاية، ويجب أن نُعيد اكتشاف متعة الحديث المباشر، والضحك الحقيقي، واللقاء الذي لا يُسجّل ولا يُشارك.

ربما نحتاج إلى أن نصمت قليلًا، ونتأمل كثيرًا، وننصت لمن حولنا بصدق، وأن نعيد بناء مجتمعنا ليس فقط بالمنشورات، بل باللحظات الصادقة، والأيدي الممدودة، والكلمات التي تخرج من القلب لتصل إلى قلب آخر.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.