الهروب الكبير القصة الحقيقية لأجرأ عملية هروب في الحرب العالمية الثانية

في سجلات التاريخ العسكري، قصص تتجاوز حدود البطولة العادية لتصبح أساطير، قصة الهروب الكبير من معسكر «شتالاغ لوفت 3» هي واحدة من هذه القصص. في هذا المقال نعود بك إلى أربعينيات القرن الماضي لنتعرَّف كيف تمكن مئات من ضباط الحلفاء الأسرى من تنفيذ واحدة من أجرأ وأعقد خطط الهروب في التاريخ، متحدين أحد أكثر السجون الألمانية تحصينًا خلال الحرب العالمية الثانية.

على الرغم من الشهرة الكبيرة التي يحظى بها فيلم «الهروب الكبير» الذي أُنتج في الولايات المتحدة عام 1963 عن قصة حقيقية لهروب 76 ضابطًا من قوات الحلفاء من أحد المعسكرات الألمانية عام 1944، فإن الأحداث الحقيقية لعملية الهروب كانت أكثر إثارة ورعبًا وتنظيمًا ما جاء في العمل السينمائي الذي حقق نجاحًا كبيرًا في ذلك الوقت.

أرقام وحقائق سريعة عن الهروب الكبير

  • المشاركون في الخطة: أكثر من 600 أسير.

  • عدد الأنفاق المخطط لها: 3 أنفاق (توم، وديك، وهاري).

  • عدد الهاربين الفعليين: 76 ضابطًا.

  • عدد من أُعدموا بعد القبض عليهم: 50 ضابطًا.

  • عدد الناجين الذين وصلوا للحرية: 3 فقط.

معسكر شتالاغ لوفت 3 السجن الذي لا يهرب منه أحد

«شتالاغ لوفت 3» المعروف أيضًا بـ«ستالاغ لوفت 3»، هو أحد المعسكرات الألمانية التي بُنيت خصيصًا لتكون منيعة ضد الهرب، إذ اختيرت تلك البقعة على بُعد 160 كم من العاصمة برلين في منطقة يصعب الحفر في تربتها وإنشاء الأنفاق لأنها تتكون من الرمال الصفراء. ووضعت القوات الألمانية مجموعة من الميكروفونات المدفونة تحت الأرض على عمق تسعة أقدام على طول سياج المعسكر لاكتشاف أي محاولة هروب من تحت الأرض.

معسكر شتالاغ

كذلك، بنى الألمان الأكواخ التي خُصصت للسجناء على ارتفاع مناسب عن الأرض لتسهُل ملاحظة أي عملية حفر في التربة بغرض الهرب. أضف إلى ذلك الحراسة المشددة التي فرضتها القوات الألمانية على المعسكر الذي خُصص لإيواء الطيارين الأسرى الأكثر خطورة ممّن حاولوا الهرب أكثر من مرة وربما نجح بعضهم في الهروب قبل أن يُقبض عليهم ويُعادوا، وبذلك كان معسكر شتالاغ لوفت 3 على المستوى النظري أحد أصعب السجون وأشدَّها تحصينًا أمام محاولات هروب الأسرى في الحرب العالمية الثانية.

خطة روجر بوشيل: حفر ثلاثة أنفاق سرية

بدأت خطة الهروب الكبير على يد الطيار البريطاني روجر بوشيل الذي قُبض عليه عندما سقطت طائرته فوق فرنسا عام 1943 واستعان بأكثر من 600 أسير من السجناء في معسكر شتالاغ لوفت 3 من أجل حفر ثلاثة أنفاق، إذ كانت الخطة تستهدف هروب أكبر عدد من الأسرى. واختير حفر ثلاثة أنفاق حتى تستمر الخطة في حال كشف أحد هذه الأنفاق.

وفعلًا بدأت عملية الحفر التي استهدفت أن يبلغ طولُ كلِّ نفقٍ أكثرَ من 300 قدم حتى يصل إلى منطقة الغابة خارج المعسكر، وأُطلقت أسماء رمزية على هذه الأنفاق وهي «هاري» و«ديك» و«توم». وللعلم، كانت عقوبة محاولة الهرب هي السجن مدة 10 أيام في الحبس الانفرادي حسب ما تنص عليه قواعد اتفاقية جنيف، وهو ما شجع كثيرًا من الأسرى على المشاركة في عملية حفر الأنفاق على أمل الهروب في النهاية.

ملحمة حفر الأنفاق إبداع في وجه المستحيل

عندما بدأ السجناء في حفر الأنفاق، لم يكونوا يتخيلون أنهم يصنعون ملحمة حقيقية، إذ بدأت عملية الحفر من داخل الكوخ رقم 104، بدءًا من إزالة الأعمدة الموجودة تحت الثكنات، وحفر أكثر من 30 قدمًا للابتعاد عن الميكروفونات الموجودة في التربة. واضطروا إلى خلع الملابس في أثناء عملية الحفر حتى لا تتلطخ بالرمال الصفراء التي يمكن أن يكتشفها الحراس على ملابسهم، وهي عملية أدت إلى استخراج نحو 100 طن من الرمال التي حُشيت في الجوارب ورُشَّت بعد ذلك في تربة الحديقة التي كان السجناء يرعونها.

ملحمة حفر الأنفاق

تضمنت عملية الهروب الكبير الكثير من التفاصيل المدهشة، ومن بينها اتجاه السجناء إلى جمع 4000 لوح خشبي من الأسرّة التي ينامون عليها من أجل بناء السلالم، وتدعيم جدران الأنفاق حتى لا تنهار، إضافة إلى استخدام نحو 1700 بطانية كعازل للصوت في الأنفاق. كما استخدموا نحو 1400 علبة حليب مجفف بعد تحويلها إلى أدوات للحفر، وصنعوا مصابيح وضعوا فيها فتائل من الأقمشة والخيوط من البيجامات التي يرتدونها بعد نقعها في الدهن الذي حصلوا عليه من الحساء.

وعلى الرغم من أن هذه التفاصيل تبدو وكأنها جزء من رواية خيالية أو فيلم سينمائي؛ فإنه الواقع الذي حدث في معسكر «شتالاغ لوفت 3». وقد تدهشك تفاصيل أخرى؛ منها أن السجناء أنشأوا نظامًا بدائيًا للتهوية داخل الأنفاق باستخدام حقائب الظهر ومضارب تنس الطاولة، وصنعوا عربات بدائية لنقل الرمال داخل الأنفاق، وابتكروا نظامًا من الإشارات للتواصل بينهم ومنع الحراس الألمان من اكتشاف العملية.

إضافة إلى ذلك قدّم السجناء الرشاوى إلى الحراس الألمان، إذ منحوهم كثيرًا من المواد التي حصلوا عليها من الصليب الأحمر التي لا يمتلكها الحُرّاسُ مثل الصابون والسكر والقهوة والشوكولاتة، وهو ما مكّنهم من الحصول على عدد من الأدوات التي ساعدتهم على تحضير أوراق مزوّرة. ومن هذه الأدوات الكاميرات والوثائق التي استخدموها بعد ذلك في عملية الهروب، وهو ما منح العملية خصوصية كبيرة بين عشرات عمليات الهروب من السجون والمعتقلات في أثناء الحرب العالمية الثانية.

ليلة الهروب الكبير: لحظات الأمل والرعب

كانت عملية الهروب من «شتالاغ لوفت 3» تستهدف تهريب نحو 200 ضابط طيار من أسرى الحرب، لكن القوات الألمانية استطاعت أن تكشفَ عن أحد الأنفاق الثلاثة التي حفرها السجناء على مدار عام ضمن خطة الهروب الكبير، وهو ما جعل الألمان يستدعون المصورين لتوثيق الاكتشاف والإنجاز الكبير قبل هدم النفق، إضافة إلى الاحتفال وربما دفع المكافآت للحراس الذين اكتشفوا هذا النفق.

ليلة الهروب الكبير

ومع فرحة الألمان باكتشاف النفق «توم»، انشغلوا تمامًا عن النفقين الآخرين، إذ لم يكونوا يعلمون بوجودهما. وبذلك استمرت خطة الهروب الكبرى، إذ حوَّل السجناء النفق «ديك» إلى مخزن للأدوات والمعدات، وركزوا على النفق «هاري» الذي أتموا العمل فيه في أواخر شتاء عام 1944، ولم يبقَ أمامهم سوى استغلال الوقت المناسب لتنفيذ عملية الهروب.

وفي ليلة 24 مارس عام 1944، بدأ الطيارون الأسرى في معسكر شتالاغ لوفت 3 الألماني في العبور من النفق «هاري» إلى الناحية الأخرى على بُعد أكثر من 30 قدمًا تحت أقدام الحراس الألمان، وصولًا إلى الأرض الثلجية خارج الأسوار، على بُعد أقدام من الغابة، إذ اكتشفوا أنهم لم يصلوا إلى منطقة الغطاء الواقي، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل عملية الهروب بطيئة إلى حد ما، وهو ما كان له عواقب شديدة الخطر.

كانت عملية عبور النفق صعبة ومرهقة للغاية، إذ كان على السجين أن يستلقي بالملابس المدنية والوثائق المزوَّرة على تلك العربة الخشبية التي تجرها الحبال، فيسحبها الأشخاص الموجودون في الناحية الأخرى من النفق. وهذا ما جعل عملية الهروب بطيئة، إذ تم إخراج نحو 12 رجلًا في كل ساعة. كما حدث أمر آخر أدى إلى إبطاء عملية الهروب، وهو انهيار جزء من النفق وانقطاع التيار الكهربائي مدة نحو ساعة بسبب حدوث غارة جوية في أثناء عملية الهروب.

المطاردة واكتشاف النفق: 73 أسيرًا في قبضة الغستابو

مع استمرار عملية هروب الأسرى من النفق منذ الساعة 10:30 ليلًا، حدث ما لم يكن متوقعًا عندما سقط جندي ألماني من دورية الحراسة في فتحة الخروج في الساعة 5:00 صباحًا، وهو ما أدى إلى اكتشاف النفق، فعاد السجناء بسرعة إلى الكوخ، وتمكَّن كثير منهم من إحراق الوثائق المزوَّرة. وبذلك توقفت عملية الهروب عند هذا الحد، ولم يستطع بقيةَ السجناء اللحاق بزملائهم الذين عبروا إلى الناحية الأخرى.

اكتشفت القوات الألمانية هروب 76 سجينًا من معسكر «شتالاغ لوفت 3» المنيع والمحصن ضد الهرب، وهو ما جعلهم يشنون حملة مطاردة واسعة تضمنت إقامة الحواجز وتكثيف الدوريات على الحدود وتفتيش المزارع والفنادق على مدار أسبوعين من الإجراءات العنيفة، بسبب الغضب الكبير للإدارة الألمانية التي شعرت بإهانة كبيرة من عملية الهروب.

وفعلًا استطاعت القوات الألمانية القبض على 73 ضابطًا من الهاربين، ولم ينجح في الهرب سوى ثلاثة رجال فقط، منهم ضابطان نرويجيان وصلا إلى السويد على متن سفينة شحن تسللا إليها، وضابط هولندي استطاع الهروب سيرًا على الأقدام وصولًا إلى جبل طارق.

المطاردة واكتشاف النفق

انتقام هتلر ومحاكمة الجناة

وقد أمر أدولف هتلر بإعدام 50 ضابطًا من المشاركين في عملية الهرب، تعبيرًا عن غضبه وكـ«رسالة» لبقية السجناء في جميع المعتقلات والسجون الألمانية. وهو ما يعد انتهاكًا لاتفاقية جنيف، وكانت له عواقبُه بعد ذلك، إذ حوكم 18 ضابطًا ألمانيًا عام 1947 في المحكمة العسكرية لقتلهم أسرى الحرب الذين حاولوا الهرب في عملية الهروب الكبير.

فيلم الهروب الكبير بين الحقيقة وهوليوود

خلّدت هوليوود هذه القصة المذهلة في فيلم شهير عام 1963 بعنوان (The Great Escape)، لكن مع بعض التعديلات الدرامية. فحين كان معظم المشاركين في الهروب بريطانيين ومن دول الكومنولث، ضخَّم الفيلم من دور الأسرى الأمريكيين. والأهم من ذلك، أن مشهد مطاردة الدراجة النارية الأيقوني الذي قام به ستيف ماكوين هو إضافة هوليوودية بالكامل ولم يحدث في القصة الحقيقية.

فيلم الهروب الكبير

على الرغم من أن عملية الهروب الكبير قد انتهت بإعدام عدد من السجناء ولم ينجح سوى ثلاثة فقط في الهروب، فإن الأمر لا يتعلق بالنتائج بقدر ما يتعلق بالشجاعة الكبيرة والقدرة العالية على التنظيم والأداء في ظل ظروف صعبة الذي يمكن أن يكون درسًا مهمًّا في التاريخ العسكري لمن يقرؤون التاريخ ويجيدون استخراج الدروس والعبر، لقد أثبت هؤلاء الرجال أن الإرادة البشرية قادرة على تحدي أقوى القيود، وأن الأمل يمكن أن يحفر طريقه حتى من تحت الأرض.

وفي نهاية هذا المقال، نأمل أن نكون قد قدمنا لك المتعة والإضافة، كما يسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات ومشاركة المقالة على مواقع التواصل لتعمّ الفائدة على الجميع.

 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة