قبل أيام قليلة، شاهدت مقابلة متلفزة لإحدى رائدات الحركة النسوية بالعالم العربي، وكانت في تلك المقابلة تتباهى بالنجاحات التي حققتها الجمعيات والاتحادات النسوية في العالم العربي، وكذا في الشرق الأوسط عمومًا، على الرغم من المعاناة التي عانتها تلك الجمعيات في محاولة تغيير البناء الثقافي والاجتماعي والسياسي لهذه المجتمعات التي تتعامل بعدائية تجاه النسوية، وأيضًا من أجل تغيير الصورة النمطية للمرأة، وإنشاء فرص تعليمية ومهنية وشخصية لها، تضع في موضع المساواة للرجل.
والحق أن ما عدَّدتْه من نجاحات للحركات النسوية قد حدث فعلًا، فقد استطاعت المرأة في العالم الإسلامي مؤخرًا أن تنتزع كثيرًا من الحقوق التي كانت محرومة منها، مثل: التصويت في الاقتراعات العامة، وشغل المناصب العليا، والحصول على فرص عمل في كثير من المجالات التي كانت محظورة منها، وكذلك التساوي مع الرجل في الأجور، وفي الملكية، والتعليم، وإنشاء العقود.
بجانب الحصول على مواد قانونية تضمن لها حقوقها في الزواج والطلاق والأمومة، وصولًا إلى حق قيادة المركبات والسفر الخارجي دون الالتزام برفقة رجل، ولا تزال الحركات النسوية بالعالم العربي والإسلامي تسعى للحصول على مزيد من المواد القانونية في مجال تحديد النسل وحق الإجهاض القانوني والدمج الاجتماعي.
وكذا في مجال حماية النساء والفتيات من الاغتصاب والتحرش الجنسي والعنف الأسري، بجانب تغيير النمط الفكري المتعلق بمعايير اللبس الأنثوي، والأنشطة البدنية المقبولة للإناث.
اقرأ أيضًا: تعرف على تفكير النسويات والمساواة بين الرجل والمرأة
لكن سؤالي هو: هل كل هذه النجاحات التي تحققت تُحسب للحركة النسوية؟ أو بصيغة أخرى: هل كانت جهود الجمعيات والاتحادات النسوية هي السبب في حدوث تلك النجاحات على نحو مباشر، أو غير مباشر؟
نشأة الحركة النسوية في العالم العربي والإسلامي
النسوية: هو مصطلح حدثي يقصد به مجموعة من الحركات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجيات التي تهدف إلى تأسيس المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق السياسية والاقتصادية والشخصية والاجتماعية، وتتخذ تلك الحركة موقفًا مناهضًا لموقف المجتمعات التي تعطي الذكور الأولوية في مختلف مناحي الحياة، وتسن معاملة غير عادلة للنساء.
وقد نشأت الحركات النسوية في العالم الغربي أولًا، ثم انتقلت إلى المشرق العربي والإسلامي فيما بعد. لكن اللافت للنظر أن بداية نشأتها في العالم العربي والإسلامي كانت على أيدي الرجال أنفسهم، أمثال: رفاعة الطهطاوي (1801- 1873)، وقاسم أمين (1863- 1908) في مصر، قبل أن تنتشر فيما بعد في أقطار العالم العربي والإسلامي، وتتبناها بعض الشخصيات النسائية.
وقد واجهت جميع موجات الحركات النسوية تحديات حقيقية، ودخلت في صدامات عدّة مع الموروث الفكري والأيديولوجي المهيمن على العقلية الشرقية، وكذلك على سياسات النخبة الحاكمة في تلك المجتمعات المنغلقة، والبعيدة عن أي تجارب ديمقراطية حقيقية، إضافة إلى عدائية رجال الدين والدعاة المحافظين والأصوليين الذين يعدون دعوات النسوية بمنزلة حرب على أحكام الدين وشرائعه، ولا يتورعون عن صب اللعنات على رؤوس النسوية ودعاتها.
اقرأ أيضًا: تجليات ظاهرة الجندر في الحركات النسوية
جهود النسوية وقانون السببية
إن السببية مبدأ عقلي محض، ينهض على أنه لا بد من وجود سبب لكل حدث على الإطلاق، فالنار لا تشتعل إلا إذا كان ثمة سبب لإشعالها، والبناء لا ينهار إلا إذا كان ثمة سبب لانهياره، والسفن لا تغرق إلا بسبب أدى إلى غرقها... إلخ.
لكن هذا المبدأ العقلي تعترضه بعض المغالطات التي تقود العقل إلى اعتناق فرضيات خاطئة وهو يعتقد بصحتها، وتجعله أيضًا يخلط بين السببية والمعية، فيعتقد أن مجرد الارتباط بين حدثين دليل على أن أحدهما سبب للآخر، دون أي دليل مادي على وجود سببية حقيقية.
لكن إثبات وجود علاقة سببية بين أي حدثين يستلزم ما أكثر من مجرد ارتباطهما معًا، فالمعية قد يكون مردها إلى:
- المصادفة البحتة.
- وجود سبب ثالث أعم وراء الحدثين، وتسمى المغالطة حينئذ: المعلول المزدوج، أو إغفال سبب مشترك.
- وقد يكون اتجاه العلاقة السببية معكوسًا، بحيث يكون ما يُعتقد أنه الأثر هو السبب، وما يُعتقد أنه السبب هو الأثر في حقيقته.
إذن توجد نجاحات فعلًا قد تحققت لمصلحة قضايا المرأة في تلك المجتمعات المنغلقة والمتزمتة، وتزامنت تلك النجاحات والمكتسبات مع صعود الحركات النسوية، لكن هذا التزامن ليس دليلًا حقيقيًّا على كون صعود الحركات النسوية هو السبب في حصول تلك النجاحات، بل لا أستبعد أن تكون العلاقة السببية معكوسة على طريقة ما ذكرته آنفا في النقطة رقم (3).
اقرأ أيضًا: أنا نسويّة
المرأة وثورة الاتصالات
لقد شهد القرن العشرين طفرة حقيقية في مجال الإعلام والاتصالات، خاصة في العقد الأخير منه، وتصاعدت تلك الطفرة في الألفية الثالثة، مع تقدم الأدوات التكنولوجية، والآلات الإلكترونية في العالم أجمع.
ولو رجعنا بالزمن إلى الخلف قليلًا، وتحديدًا مع اختراع التلفزيون، ووصول هذا الاختراع إلى العالم العربي والإسلامي، فكان بدء العمل بإطلاق البث التلفزيوني في الجزائر عام 1956، وفي لبنان ومصر في عام 1959، وبعد ذلك بدأ البث التلفزيوني ينتشر تباعًا في بقية الدول العربية مثل سوريا في 1960، والسودان عام 1962، والسعودية التي انطلق فيها أول مرة في 1964، والأردن عام 1968، وقطر في 1970، والبحرين في 1973، حتى حدوث التغير الدراماتيكي الأكبر بالمنطقة العربية بداية من عقد التسعينيات، بعد دخول الأقمار الصناعية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وكلها أدوات ساعدت في تنويع خدمات البث المرئي بعد أن كانت شبه محصورة بيد الحكومات المحلية.
إنني أجزم بأن البث التلفزيوني كان أكبر عامل في الانتصار لقضايا المرأة، بما يقدمه من أعمال تليفزيونية وسينمائية ومسرحية، وما تحتويه تلك الأعمال من نماذج وشخصيات نسائية، وقصص وصراعات درامية، والأهم من ذلك ما وصلت إليه نجمات الفن في مجالي التمثيل والغناء من نجاح وجماهيرية، كل ذلك أسهم بقوة في كسر حاجز الانغلاق، وإضعاف طوق التزمت الذي يحيط بعنق هذه المجتمعات الرجعية.
ولا شك أن الجمعيات والاتحادات النسوية استفادت من هذه الطفرة الإعلامية، ووجدت فيها ما يدعم قضاياها ودعواتها، وقد كانت هذه الطفرة الإعلامية هي المقدمة الحقيقية للعولمة في جميع مجالاتها ونطاقاتها.
لكن على العكس من ذلك: ما بين فينة وأخرى تخرج تصريحات يمكن وصفها بالاستفزازية من رائدات الحركات النسائية تصطدم مباشرة مع ثقافة تلك المجتمعات، وتسبب حالة من السخط والاستنكار لدى قطاعات عدّة من الناس، وهذه التصريحات تؤدي إلى ردود فعل من شأنها أن تعرقل خطوات الحركة النسوية، وتبطئ بلوغها مساعيها وأهدافها.
وكأن القائمات على هذه الاتحادات والجمعيات يتعمدن إثارة غضب المجتمعات على المستوى الشعبي والإعلامي، وهدم تلك النجاحات التي تحققت سواء على أيديهن أو أيدي غيرن، بما يعني أن الجمعيات والاتحادات النسوية نفسها قد تكون أخطر خصم تواجهه في مساعيها.
وإنني أحاول أن أتخيل ماذا كان يمكن أن تواجهه أو تحققه تلك الجمعيات والاتحادات النسوية قبل اختراع التلفزيون، وانتشار الإنترنت في هذه المجتمعات، وماذا كان يمكن أن تصل إليه لو لم تحدث تلك الطفرة التكنولوجية والإعلامية، ولا أجد سوى نتيجة واحدة يمكن التعبير عنها بعبارة: الفشل الذريع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.