النبيل "صلاح" ليس باهدافه النبيل "صلاح" ليس بأهدافه ولكن أيضًا بأخلاقه ايضا باخلاقه

حبشي رشدي حينما أطلق الحكم صافرة ختام مباراة مصر والمغرب التي فازت بها مصر لتضرب موعدًا وصفه البعض بأنه ناريًا مع فريق الدولة المضيفة للبطولة القارية الإفريقية "الكاميرون" انسلّ صلاح من بين الفارحين والمتهللين بالفوز، وبعد أن تلقى قبلات ونعاقات المهنئين، ليقصد اللاعب المغربيّ أشرف حكيم الذي كان جالسًا على نجيلة الملعب يلعق أحزانه لخسارة التأهل لنهائيات هذه البطولة ليتلقى الأخير مواساة حانية ورقراقه من اللاعب المصريّ.

فومضت عدسات المصورين التي تتعقب صلاح أينما يكون لتوثق هذا السلوك الإنسانيّ النبيل الذي أصبح حديث وسائط الإعلام الرياضيّ في العالم، ورغم أن مصرنا أمُّ الحضارات والثقافات والسلوكيات الإنسانية النبيلة والرّاقية، إلّا أن محمد صلاح لم يتحلَ بكل هذا الرقيّ الإنسانيّ إلّا من خلال روافد إنسانية تعدّدت وتلاحمت، منها أولًا: مصريّته، وتحديدًا ثقافة وطيبة أهل القرى والمجتمعات المحلية الأصيلة بمصر، ومنها ثانيًا: نتاجات الاحتكاك الحضاريّ بثقافات شعوب أوروبيّة راقية، كتلك التي احتضنت صلاح في رحلة اغتراب طويلة، سواء حينما كان يلعب في إيطاليا، أو حينما يلعب حاليًا في ليفربول بريطانيا، في عالم الرّياضة يطلق على هذا السلوك الرّاقي ما يسمّى الرّوح الرّياضية.

رغم أن هذه الرّوح الرّياضية لا ينبغي أن تكون حصرية على عالم الرّياضة والرّياضيين، بل ينبغي أن تتسع رقعة التحلي بها لتصبح سلوكًا إنسانيًا شائعًا، صلاح استدعته الضرورة هضم وامتثال هذه الثقافات والإفادة ممّا فيها من زخم إنسانيّ.

ومنها ثالثًا: أن صلاح لاعب كرة قدم، ويهتم جدًا بلياقته البدنية وقوّته العضلية، وهذا بطبيعة الحال من مقتضيات احترافه لهذه الرّياضة التي حصد من ورائها عشرات الملايين من الدولارات، وصار من أغنى أغنياء رياضة كرة القدم، ولكنه بالمثل يهتم بثقافته من خلال القراءة وما يطرح من كتب هنا وهناك حول السلوك الإنسانيّ في خوضه لتحديات مختلفة، فجميل أن يجمع المرء في وعائي الجسد والعقل اعتناء باللياقة البدنية ويوازيها أيضًا اعتناء باللياقة المعرفية، فلا يربي فقط في بدنه قوّة بدنية ماهرة في سباق زملائه اللاّعبين المنافسين في المستطيلات الخضراء والملاعب الدولية الرّائعة في بنيتها وهندستها وإمكانياتها، ولكنه يجعل حدقة الرؤى تتسع لرؤية عالمنا الرّاهن الذي تتسارع فيه الاكتشافات وثورات العلوم والتقنيات المدهشة وتقويم وهندسة السلوك البشري.  

وأغلب ظني، أن مواساة صلاح للاعب المغربيّ أشرف حكيمي ليس سلوكًا فطريًا محضًا، ولكنه ثمرة من ثمار الزاد المعرفيّ الذي حصده صلاح من قراءاته ومطالعاته وتجاربه في الحياة وثقافته المتعدّدة الروافد، بل وربما نقلًا عن علاقته بمدربه الألمانيّ يورغن كلوب، فهذا المدرب ثروة في فنونه القيادية، وكثيرًا ما واسى صلاح أن في أزماته خلال المباريات، وأن في مواقف أخرى عديدة رأينا فيها صلاح يلجأ إلى مدربه بحثًا عن ترياق نفسي لمواجهة إصابة تعرّض لها صلاح أو مواقف مختلفة في علاقاته بناديه ليفربول.

ويمكن القول إن وضع صلاح يده على كتف أشرف حكيمي وأحيانًا يضع يده على فمه وهو يتحدّث إليه، أو يحتفظ بوجه البوكر فيس الخالي من تعبير بعينه، فهو لا يظهر غبطته بالفوز ولا يعرف إطلاقًا شماتة في منافسيه، وهو أيضًا ليس حزينًا لفوزه وهزيمة الفريق المغربي، بمعنى عدم التعبير إطلاقًا عن ردود أفعال إيجابية أو سلبية تجاه الآخر، والحفاظ على جسم صاحب البوكر فيس في وضع مريح، والتفاعل بهدوء مع الآخرين، إنها إذا إنسانية يهتم فيها القويّ بنقطة ضعف الآخر، وكلل محمد صلاح ذلك المعنى باحتضانه للاعب  المغربيّ مواسيًا... الخ، فكلّ هذه الوسائل التي يتحدّث عنها خبراء لغة الجسد بإفاضة، أجادها محمد صلاح واستخدمها ببراعة عن خبرة أسلفنا الحديث عن مصادرها، وأيضًا عن قناعة بأهمية الإنسانية الرّاقية في العلاقات البشرية، حتى لو كانت مباريات كرة القدم التي تعتمد بالدرجة الأولى على القوّة العضلية واللياقة البدنية، ودحر الخصم، وتكثر فيها الإصابات والارتطامات والاصطدامات العنيفة بين اللاعبين.

وهنا ينبغي أن نلحظ تفسيرًا لكون محمد صلاح من أقل اللاعبين الذين يتصيدهم ويعاقبهم حكّام كرة القدم بضربات الجزاء عقابًا على أخطاء العنف في المباريات، فصلاح اختار في لعبه الإجادة والمهارة الناعمة والمباغتة للخصم في تسديد الأهداف واختراق حصون الفريق الخصم والإسراع بالانتقال خلف خطوط دفاع الفريق المنافس، ولا يلجأ إطلاقًا إلى الخشونة في لعبه كما يلجأ إليها لاعبون آخرون كثر.

لكلّ ذلك يمكن القول إن رصيد صلاح في لعبة كرة القدم ليس فقط عدد الأهداف الهائل، والتي سدّدها ببراعة في مباريات عدّة، ولكن أيضًا يضيف النبيل محمد صلاح مفهومًا رائعًا للرّوح الرّياضية سيتحدّث عنه النّقاد في مناسبات عديدة، وسيسهم في تخفيف العنف الكرويّ، وتلك التجاوزات المقيتة التي يترتب عليها إصابات بشعة، كما أن صلاح ونبله في مثل هذه المواقف من شأنه إحداث تعديل في المعايير التي يثاب بها فرسان وعمالقة كرة القدم، فهي ليست فقط عدد الأهداف، بل إنها أيضًا السلوكيات في الملاعب أثناء المباريات، بل وحتى بعدها!

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

نبذة عن الكاتب