على الرغم من تعدد الأمراض والأوبئة التي أصابت البشر على مدار التاريخ وقضت على أعداد كبيرة وتسببت في تغيرات اجتماعية هائلة، فإن وباء الطاعون الذي يطلق عليه (الموت الأسود)، لا يزال صاحب أسوأ الذكريات في تاريخ البشرية. فما حكاية الموت الأسود؟ وكيف بدأ؟ وما تأثيراته على أوروبا والعالم؟ أسئلة نجيب عنها في السطور التالية، إضافة إلى كثير من المعلومات والحقائق المدهشة عن الموت الأسود.
ما المقصود بالموت الأسود؟
يقصد بالموت الأسود أو الطاعون الأسود ذلك الوباء العظيم الذي ظهر في القرن الرابع عشر وحصد عددًا كبيرًا من الأرواح بطريقة فظيعة جعلتهم يطلقون عليه (الطاعون الأسود) في مناطق عدة من أوروبا، في حين أطلقوا عليه في السويد والدنمارك اسم (الموت العظيم).
ثم جاء مصطلح (الموت الأسود) بسبب الطبيب الألماني يوستوس هيكر الذي ألَّف كتابًا بعنوان (الموت الأسود في القرن الرابع عشر)، وصدر هذا الكتاب عام 1832، وهو ما يعني أن مصطلح "الموت الأسود" يعد مصطلحًا جديدًا للوباء. وبعد صدور الكتاب، أصبح مسمى "الموت الأسود" أكثر استخدامًا في أوروبا والعالم للتعبير عن الطاعون الذي انتشر في القرن الرابع عشر.
تاريخ الموت الأسود
نظرًا لضعف المصادر وقلة التوثيق، فإن مسألة تحديد بداية انتشار الموت الأسود تظل مجرد نظريات، بعضها يؤكد أن الموت الأسود انتشر في وسط آسيا ثم انتقل منه إلى أوروبا، وبعضها يتحدث عن انتشار الموت الأسود في شمال الهند، في حين يؤكد عدد من المؤرخين أن الموت الأسود كانت بدايته في قارة إفريقيا، ومنه انتقل إلى آسيا، ثم انتقل على طول طريق الحرير ووصل إلى أوروبا في بدايات القرن الرابع عشر.
لكن الأمور الثابتة في انتشار الموت الأسود في أوروبا هي الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ساعدت على زيادة شدة المرض وتشكيله ليصبح وباءً رهيبًا يحصد كل هذه الأعداد من الأرواح، مثل ظروف الطقس التي أدت إلى قلة المحاصيل الزراعية والمجاعات والحروب، ما جعل مواطني أوروبا في أضعف حالاتهم واستعدادهم للمرض نظرًا لضعف المناعة في ذلك الوقت.
وشهد القرن الرابع عشر في أوروبا حدوث ما يسمى "العصر الجليدي الصغير" الشتاء القارس الذي أدى بدوره إلى انخفاض كبير في كمية المحصولات، ثم حدثت (المجاعة الكبرى) بين عامي 1315 و1317، وهو ما أدى في النهاية إلى انخفاض كبير في إنتاج الحبوب والمواد الغذائية وارتفاع الأسعار، وجرت إجراءات مقابلة برفع الضرائب والإيجارات، لذا عاش سكان أوروبا في مشكلات اجتماعية واقتصادية أدت بدورها إلى مشكلات صحية كبيرة، ما أدى إلى ظهور مجموعة من الأوبئة، مثل التيفوئيد الذي استهدف الناس نتيجة تلوث المياه، والجمرة الخبيثة التي استهدفت الحيوانات والأغنام؛ وعلى هذا، كان ظهور الطاعون أو الموت الأسود تطورًا طبيعيًّا للأحداث في أوروبا.
أما عن عدد الضحايا نتيجة الإصابة بالموت الأسود، فقد اختلفت الأرقام التي حاولت رصد الخسائر في أوروبا، إذ أشار المؤرخ فيليب دايليدر إلى وفاة نحو ثلث سكان أوروبا نتيجة المرض الأسود في القرن الرابع عشر، أما البحوث الحديثة التي أُجْرِيَت في عام 2007 قد أشارت إلى وفاة نحو 50% من سكان أوروبا في مدة زمنية لا تتجاوز أربع سنوات، وهو ما قد يصل بالعدد إلى أكثر من 200 مليون شخص، معظمهم في ألمانيا وبريطانيا، إضافة إلى أعداد كبيرة من الضحايا خارج أوروبا، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، إذ قضى الموت الأسود على نحو 40% من سكان مصر.
الطاعون
الموت الأسود أو الطاعون هو أحد الأمراض القديمة التي ظهرت في مراحل تاريخية مختلفة، لكن ظهوره في العصور الوسطى كان الأكثر شراسة وحصدًا للأرواح، أُطلق عليه الناس اسم "الطاعون الأسود" بسبب انتشار البقع النزفية تحت الجلد، وهو ما يحدث بسبب نوع من البكتيريا يطلق عليها (اليرسينيا الطاعونية) التي اكتشفها العالم الفرنسي السويسري (ألكسندر يرسن).
وتعود هذه البكتيريا إلى أجساد القوارض، وتستطيع أن تعيش وتتكاثر في القوارض، ثم تنتقل منها إلى الإنسان بواسطة البراغيث التي تلدغ الإنسان بعد أن تلدغ القوارض المصابة، أو ربما نتيجة عض القوارض للإنسان، ثم تنتقل بسهولة بعد ذلك من شخص إلى آخر من خلال الهواء، وبواسطة العطس والكحة، إذ لا يحتاج الأمر لأكثر من ستة أيام لظهور أعراض المرض.
أنواع الموت الأسود
النوع الأول هو طاعون (الغدد الليمفاوية)، وهو الأكثر انتشارًا بين أنواع الموت الأسود، إذ يصيب أكثر من 84% من المصابين بالطاعون، ويُطلق عليه أيضًا (الطاعون الدبلي). ويحدث هذا النوع نتيجة لدغة البرغوث للإنسان بعد لدغ القوارض المصابة، فتتكاثر بكتيريا الطاعون في مكان اللدغة، ثم تنتقل إلى باقي أجزاء الجسم، فيحدث تضخم كبير وارتفاع في درجة الحرارة، وآلام مبرحة، وتقرحات، ونزف مؤلم، وتفرز البكتيريا سمومًا شديدة الخطر تؤدي في الغالب إلى الموت إذا لم تُعَالَج مبكرًا.
أما النوع الثاني من الموت الأسود، فهو طاعون (إنتان الدم) الذي يحدث نتيجة حالات العدوى من المصابين بالطاعون الذي يؤدي إلى تلوث في الدم، ما يؤدي بدوره إلى انتشار السموم الداخلية في البكتيريا، فتحدث التجلطات في الأوعية الدموية، ونزف قد يظهر على هيئة بقع تحت الجلد، وربما كانت هذه البقع هي ما أدى إلى تسميته "الموت الأسود". ويصاحب هذا النوع من الطاعون قيء دموي، وكحة، وأعراض للتسمم قد تؤدي أيضًا في النهاية إلى الموت إذا لم يُكْتَشَف في مرحلة مبكرة، فقد يؤدي هذا النوع إلى الموت في نفس يوم ظهور الأعراض.
أما النوع الأخير من الموت الأسود، فهو الطاعون الرئوي الذي يحدث نتيجة العدوى الهوائية عن طريق استنشاق الرذاذ الذي يحمل البكتيريا، نتيجة العطس أو السعال من الإنسان المريض، وهو أقل أنواع الموت الأسود أو الطاعون انتشارًا، فلا يصيب إلا نحو 3% فقط من الحالات، لكنه يُعد أخطر أنواع الموت الأسود، إضافة إلى عدم التوصل إلى تطعيم لهذا النوع حتى الآن. ويستخدم هذا النوع في الهجمات والحروب البيولوجية، إذ يؤدي إلى مجموعة من الأعراض القوية مثل الصداع، وارتفاع درجات الحرارة، وضيق التنفس، والسعال، والقيء الدموي، وغالبًا ما يؤدي إلى الموت بنسبة تتراوح ما بين 50% إلى 90%.
الموت الأسود في العصر الحديث
وفي عصرنا الحديث، فقد عاد الطاعون أو الموت الأسود في ستينيات القرن الـ19، إذ ظهر في الصين وهونغ كونغ، وظهر أيضًا في بداية القرن الـ20 كجائحة أدت إلى وفاة نحو عشرة ملايين شخص، عندما انتشر عن طريق السفن البخارية نتيجة وجود الجرذان التي كانت مفتاح الوصول إلى طريقة لمكافحة الموت الأسود، إذ بدأت الشعوب في القضاء على الجرذان والبراغيث، وهو ما ساعد على حصر الوباء، لا سيما في المدن، في حين يسود اعتقاد عالمي بأن الموت الأسود ما زال متوطنًا في عدد من الأماكن الريفية، وتحمله أنواع عدة من الثدييات الصغيرة والسناجب، وهو ما يؤكده ظهور المرض الأسود على مراحل في مناطق متفرقة، على الرغم من أن الحالات تبدو نادرة، فإنها تجعل العالم يتذكر الطاعون الأسود، ولا ينسى الوباء الذي قضى على نصف سكان أوروبا في أربع سنوات.
وفي نهاية هذا المقال الذي تضمن رحلة عبر التاريخ للتعرف على الموت الأسود وأنواعه وأسبابه، ونرجو أن نكون قد قدمنا لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.