الممارسات الثقافية الفرنسية في العصر الرقمي

إن استكمال دراسة استقصائية جديدة عن الممارسات الثقافية الفرنسية في عام 2008، بعد أكثر من عشر سنوات على دراسة عام 1997، يمثل فرصة لتقييم التغيرات العميقة التي طرأت على ظروف الوصول إلى الثقافة في السنوات الأخيرة، مع ظهور الثقافة الرقمية والإنترنت. وفي الوقت الذي يتمتع فيه أكثر من نصف الفرنسيين باتصال واسع النطاق في منازلهم، ويستخدم أكثر من ثلثهم الإنترنت يوميًّا لأغراض شخصية، كيف هو حال قراءة الكتب أو الاستماع إلى الموسيقى أو ممارسة الأنشطة الفنية كالهواية؟ هل انخفض أو زاد الإقبال على دور السينما أو المسارح أو قاعات الحفلات الموسيقية؟

وقبل كل شيء، كيف تتفاعل الأشكال الجديدة للوصول إلى الثقافة عبر الإنترنت مع استهلاك وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفزيون والراديو، أو مع الممارسات الثقافية "التقليدية"؟

تطور هائل في تخزين وتبادل المحتوى السمعي البصري

إن الانتشار السريع للغاية لأجهزة الكمبيوتر والإنترنت في المنازل الذي يُعد بلا شك الظاهرة الأبرز في العقد الماضي، لا يمكن عزله عن الحركة العامة لتعزيز المخزون السمعي البصري المحلي، في الواقع، شهدت المرحلة نفسها تغييرات كثيرة: تحسَّنت ظروف استقبال البرامج التلفزيونية، مع تنوع كبير في محتوى البرامج، إلى جانب انتشار الشاشات المسطحة وأنظمة السينما المنزلية التي أصبحت الآن متوفرة في نحو واحدة من كل خمس أسر.

كما حلت مشغلات DVD وأجهزة النسخ محل أجهزة تسجيل الفيديو على نحو شبه كامل، وانتقلت وحدات التحكم في الألعاب إلى منازل جديدة، وزادت مشغلات MP3 من سهولة الاستماع إلى الموسيقى، ما عزز أثر الثورة الموسيقية التي بدأت منذ أكثر من ثلاثين عامًا مع ظهور أنظمة "هاي فاي" ومشغلات الموسيقى المحمولة.

وإذا أضفنا إلى ذلك النجاح الكبير الذي حققته الهواتف المحمولة متعددة الوظائف، يُمكننا تقدير التوسع الهائل في إمكانيات استهلاك وتخزين وتبادل المحتوى السمعي البصري الذي شهدناه منذ أواخر التسعينيات. هذا التوسع لم يقتصر فقط على الفضاء الخاص في المنازل، بل شمل أيضًا أي مكان آخر بفضل الطبيعة المتنقلة لعدد من الأجهزة الحديثة.

حققت الهواتف الذكية نقلة هائلة في إمكانات تخزين وتبادل المحتوى السمعي البصري

لقد تطورت ظروف الوصول إلى الفن والثقافة تطورًا جذريًّا تحت تأثير العوامل المشتركة لتجريد المحتوى من المواد، وتعميم الإنترنت عالي السرعة، والتقدم الكبير في تجهيز الأسر بأجهزة الكمبيوتر وأجهزة الألعاب والهواتف متعددة الوسائط، ففي أقل من عشر سنوات استُبدلت الأجهزة الثابتة المخصصة لوظيفة معينة (مثل الاستماع إلى الأقراص، ومشاهدة البرامج التلفزيونية، وقراءة المعلومات، والتواصل مع الآخرين) أو استُكملت بأجهزة متنقلة في الغالب، توفر مجموعة واسعة من الوظائف التي تقع عند تقاطع الثقافة والترفيه والتواصل بين الأشخاص.

لقد أدى هذا التطور إلى ترسيخ الشاشات نهائيًّا بصفتها وسيلة مفضلة لعلاقتنا بالثقافة، بإبراز التداخل بين الثقافة والترفيه. وبين عالم الفن وعالم التواصل، ومع ظهور التكنولوجيا الرقمية وتعدد استخدامات المحطات الطرفية المتاحة اليوم، أصبحت معظم الممارسات الثقافية متقاربة على الشاشات: عرض الصور، والاستماع إلى الموسيقى بطبيعة الحال، ولكن أيضًا قراءة النصوص أو ممارسة الهوايات، فضلًا على أن الشاشات أصبحت جزءًا من المكتبات ومساحات العرض، بل حتى في بعض الأحيان في أمكنة مخصصة للعروض الحية، أصبح كل شيء الآن قابلًا للعرض على الشاشة ومتاحًا عبر الإنترنت.

الانتشار السريع للإنترنت

لقد كان انتشار "وسائط الإعلام المتعددة الأغراض" الجديدة، مثل الإنترنت، سريعًا، لا سيما بين الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 45 عامًا. إذ يوجد أكثر من نصف الفرنسيين يستخدمونها في أوقات فراغهم، وأكثر من اثنين من كل ثلاثة مستخدمي إنترنت (67%) يتواصلون يوميًّا أو تقريبًّا كل يوم، خارج أي التزام مرتبط بالدراسة أو النشاط المهني، لمدة متوسطة تبلغ 12 ساعة في الأسبوع.

فالشباب وأصحاب الخلفيات المتميزة هم المستخدمون الرئيسون للإنترنت والشاشات الجديدة، على عكس التلفزيون الذي كان استهلاكه دائمًا يرتبط بكبار السن والأشخاص ذوي المستويات التعليمية المنخفضة. تكمن الأصالة العميقة للإنترنت في هذه المفارقة، فعلى الرغم من استخدامها على نطاق واسع في المنزل -إذ لا تزال الاتصالات عبر الأجهزة المحمولة محدودة إلى حد ما- تبدو هذه الوسائط الجديدة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بثقافة النزهة التي يتميز بها الشباب والخريجون، إذ يميل نمط الترفيه لديهم إلى أن يكون أكثر توجُّهًا نحو الأنشطة خارج المنزل، مع مشاركة أقوى في الحياة الثقافية.

ولذلك فإن الوضع الحالي يختلف جذريًّا عما كان عليه في الثمانينيات والتسعينيات، حين كانت ثقافة الشاشة تقتصر أساسًا على استهلاك البرامج التلفزيونية، ففي ذلك الوقت كانت مدة مشاهدة التلفزيون الطويلة ترتبط عادة بمستوى منخفض من المشاركة في الحياة الثقافية، أما اليوم فإن الإنترنت يقدم واقعًا مختلفًا تمامًا؛ إذ يتعلق استخدامه الأساسي بالفئات الأكثر نشاطًا ثقافيًّا من السكان، حتى لو كانت هذه الفئات أكثر ضعفًا، لذا فإنّ احتمال زيارة السينما أو المسرح أو المتحف خلال الاثني عشر شهرًا الماضية، أو قراءة عدد كبير من الكتب، يزداد بانتظام مع تكرار استخدام الإنترنت.

يقضي الفرنسيون أمام الشاشات نحو 30 ساعة أسبوعيًّا

كم يقضي الفرنسيون من الوقت أمام الشاشات؟

وعند احتساب الوقت الذي يقضيه الفرنسيون على الإنترنت، إلى جانب استخدامات الكمبيوتر الأخرى مثل ممارسة ألعاب الفيديو على وحدات التحكم أو مشاهدة أقراص الفيديو الرقمية (DVD)، يمكن تقدير متوسط الوقت الذي يخصصونه للشاشات خارج إطار مشاهدة البرامج التلفزيونية المباشرة، وهذا الوقت يزيد قليلًا على عشر ساعات أسبوعيًّا، أي ما يقارب نصف الوقت المخصص لمشاهدة التلفاز (21 ساعة أسبوعيًّا)، وبذلك يصل إجمالي الوقت الذي يكرَّس للشاشات إلى 31 ساعة أسبوعيًّا.

شهدت ظروف الوصول إلى الفن والثقافة تحولًا جذريًّا بفعل التأثيرات المتداخلة لتجريد المحتوى من وسائطه التقليدية، وانتشار الإنترنت عالي السرعة، والتطور الكبير في تجهيز الأسر بأجهزة الكمبيوتر وألعاب الفيديو والهواتف متعددة الوسائط. وفي أقل من عشر سنوات، حلت الأجهزة المحمولة ومتعددة الوظائف محل الأجهزة الثابتة التي كانت مخصصة لوظائف محددة مثل تشغيل الأقراص، ومشاهدة التلفاز، وقراءة المعلومات، أو التواصل، وهذه الأجهزة الحديثة تقدم نطاقًا واسعًا من الاستخدامات على مَفرِقِ طرق الثقافة والترفيه والتواصل بين الأشخاص.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة