يُكتب الأدب عملًا إبداعيًّا لكي يعبر عن قضايا المجتمع، وما أجمل أن يمتع القارئ، ويخرج منه بعد الدخول في قراءته بحالة من المتعة والتشويق، فيسعد الكاتب والمتلقي بوصول الفكرة الأساسية التي دار بشأنها العمل الأدبي.
وعندما ينجح الأديب بأدواته وأسلوبه وبالأخص لغته برسم الصور الواقعية التي يعرفها القراء من قبل ولكن بطرح جديد، يشعر بنشوة الانتصار في تطويع الأدب لخدمة قضايا المجتمع، وبذلك تنتقل تلك الرسائل للمتلقين.
وهذا ما نجح فيه الكاتب السعودي حسين السنونة (من الدمام)، في قصته «الوسادة البيضاء» والمنشورة في المجلة العربية، السعودية، العدد (545)، فبراير 2022 م، رجب 1443هـ.
اقرأ أيضًا وحيد حامد السيناريست المثير للجدل واقتباسات من أعماله
نبذة عن القصة
بدأت القصة بسلاسة، وبسرعة بدأ الكاتب في وصف المكان على لسان الراوي؛ لأن المكان هو البطل الأول بهذه القصة، وكل تفصيلة من تفصيلات المكان تحمل في طياتها رمزية ما يريدها الكاتب.
تدور أحداث قصة «الوسادة البيضاء»، داخل إحدى غرف الفنادق الكبيرة الراقية، التي نقل لنا وصفها البطل الراوي، بل جعلنا نشاهده بالصوت والصورة (أنهيت إجراءات الإقامة في الفندق الفخم.
استلمت (كارت) الغرفة وتوجهت نحو المصعد، الروائح العطرية والموسيقى الهادئة تملأ الأجواء، ما إن دخلت الغرفة حتى وضعت حقيبة ملابسي على الطاولة القريبة من الباب، أديت عاداتي المعتادة عند دخولي أي غرفة جديدة، تفقدت الحمام، الثلاجة، التلفزيون، القنوات الهندية التي اعتدت متابعتها).
فمن الواضح أن البطل من محبي مشاهدة القنوات الفضائية لا سيما قنوات الأفلام الهندية بل لدرجة العشق (حسنًا.. 3 قنوات لعرض الأفلام الهندية على مدار الساعة)، بالطبع ليس عيبًا حب الفن والثقافة الهندية، فالسينما الهندية وصلت للعالمية، بل لها نصيب كبير في الدخل القومي الهندي الكلي سنويًّا الناتج من صناعة السينما.
فبواسطة خلال الوصف السابق، يتضح بأن البطل الراوي يرصد ويحس كل ما يحيطه بواسطة حواسه المختلفة، حاسة الشم والسمع (الروائح العطرية والموسيقى الهادئة تملأ الأجواء)، حاسة البصر وأيضًا اللمس (تفقدت الحمام، الثلاجة، التلفزيون، القنوات الهندية).
فمن الواضح أنه شخصية حساسة جدًّا، ولديها نسبة عالية في عدد من الذكاءات الحسية والبصرية والسمعية، وهذا ما سوف يتضح لنا من طريق قراءتنا للقصة في السطور التالية.
اقرأ أيضًا مخطوطة ابن إسحاق وصلاة الممسوس والمرتد.. ملخص روايات حسن الجندي
الوصف الدقيق
أظهرت دراسة بريطانية أن العيش قرب البحر يساعد على تعزيز ممارسة الأنشطة البدنية لمن يقيمون في الشواطئ مقارنة بغيرهم ممن يعيشون داخل المدن بعيدًا عنها.
يقول الراوي: «فتحت النوافذ التي تشاركني الغرفة، النافذة الأولى تطل على بحر وإن كان بعيدًا»، أظهرت الدراسة، التي نُشرت في دورية «الطب الوقائي»، أن العيش على مقربة من الشواطئ يؤدي دورًا مهمًا وحيويًّا في التعزيز والتحفيز إلى زيادة معدلات النشاط البدني.
كما يوجد بجوار البحر مسجد، وهذا يعني أنه سوف يسمع صوت الأذان باستمرار على مدار اليوم والليلة «وبالقرب منه مسجد، ما يعني أن صوت الأذان سيكون قريبًا من أذني صباحًا ومساء»، ولصوت الأذان راحة لا يشعر بها إلا من تعود سماعها، وبالأخص أذان الفجر، اللهم لا تحرمنا لذة سماع الأذان.
أما "النافذة الثانية فتطل في ما يبدو على مقبرة (إنا لله وإنا إليه راجعون)"، وهنا وبالرغم أن هذا ممكن حدوثه، بأن تطل نافذة على البحر والمسجد، والثانية تطل على مقابر.
ولكن في رأيي أن الكاتب يريد أن يقول بفلسفة إن الإنسان دائمًا يجد في الحياة الأمرين المتناقضين، الدنيا والآخرة، الجنة والنار، الدار الدنيا والدار الآخرة، الحياة الدنيا وحياة البرزخ، فقط لمجرد أن البطل الراوي فتح نافذتي غرفة الفندق الذي نزل به.
بدأ البطل التعامل مع محتويات وأجزاء الغرفة بعد فتح النوافذ، فقد وزع ملابسه في الدولاب، ووضع جزءًا من الملابس الخاصة وبعض العطور وملطف الجسم بالحمام، ثم أخذ يستحم سريعًا ومن الوارد أنه كان بالماء الساخن.
وقد دلل البطل على ذلك بأنه (شربت شيئًا من الماء البارد)، وكان الغرض من هذا الاستحمام هو الخلود للراحة والنوم (ورميت بجسمي على السرير أحاول النوم).
وإلى هنا جاء دور السرير بعد النوافذ والدولاب والحمام وكوب الماء (بالثلاجة)، وقبلها الطاولة القريبة من الباب، التي وضع عليها حقيبة الملابس بمجرد دخوله الغرفة، ثم (الريموت كونترول بين يدي أنتقل من قناة إلى أخرى، توقفت عند القناة الخاصة بالأفلام الهندية).
كما توجد طاولة ثانية بجوار السرير بخلاف الأولى القريبة من باب الغرفة (رميت الريموت على الطاولة الصغيرة القريبة من السرير).
اقرأ أيضًا تعرف على المجتمع الأدبي العالمي الأكثر شهرة Wattpad
تركيز الكاتب على الحواس
وإلى هنا بدأ الدور الموسع للسرير، وما عليه من أغطية ووسائد داخل القصة، فوصف الكاتب على لسان البطل السرير وما عليه بدقة شديدة: (أخذت أتلمس السرير، الفراش يبدو رائقًا وجميلًا، ولكن أغطيته تبدو صيفية، ربما لا يكفي للصمود في الليل لبرودة التكييف، توجد 4 وسادات وأخرى تبدو مختلفة صغيرة الحجم، كيسها له جانب أحمر والآخر أبيض، أما أكياس الوسائد الأخرى فمزدحمة بالرسوم: الأهرام، برج إيفل، الأوبرا الإيطالية، المتحف البريطاني، لاعبو كرة القدم، أشهر نساء العالم، وحيوانات صغيرة وكبيرة وألوان وأشكال وصور مختلفة).
وهذا التصوير يدل على: إما أن للقاص ذاكرة فوتوغرافية، أو أنه يصور ما يراه بأي كاميرا رقمية كالموجودة في الهواتف النقالة حاليًّا، أو أنه أتى بإحدى الصور لإحدى أسرة غرف الفنادق الفخمة بالبحث على الشبكة العنكبوتية، خاصة أن لتلك الفنادق صفحات ومواقع إلكترونية.
وكما ذكرنا في مقدمة تلك القراءة، بأنالبطل الراوي يمتلك استخدام الحواس بطريقة جيدة جدًّا، من لمس وشم، وله نظرة في تذوق الأشياء من حوله.
فها هو (اخترت الوسادة الصغيرة وبمجرد أن لامستها رأسي حتى طوقتني منها روائح، مزيج من العود العربي والعطر الفرنسي، ورائحتي عندما أخرج من الحمام، غريب! أول مرة أرى وسادة بهذه الرقة والنعومة والروائح، كأنها زجاجة عطر انفتحت، اللون الأحمر هو الغالب في الفندق الذي يبدو أن إدارته تشجع فريق ليفربول).
بالطبع ذكره لنادي ليفربول الإنجليزي لكرة القدم، لا يأتي من فراغ فيلعب به النجم المصري والعربي العالمي "محمد صلاح" أو كما يتغنى به جماهير ليفربول "الملك المصري مو صلاح"، كأن الكاتب أحب أن يشير لحب بطل قصته "الوسادة البيضاء" للأفلام والسينما الهندية، وأيضا تشجيع كرة القدم ورؤية الدوري الإنجليزي وبالأخص فريق ليفربول الذي يلعب له فخر العرب.
اقرأ أيضًا حوار لم تنشره الصحف مع أديب الجاسوسية المصري نبيل فاروق
الزواج في السر
وتطبيقًا عمليًّا على عنوان القصة (الوسادة البيضاء) من الجدة والتركيب والابتكار والعلاقة بينه وبين مضمون القصة وأدواتها من (زمان ومكان وشخصية) واتفاقه مع الجو النفسي العام للقصة.
ولأن العنوان عتبة أولى من عتبات قراءة النص القصصي، هيا نقرأ الفقرة التالية على لسان البطل الراوي: (أخذت أمرر يدي عليها، رقيقة وناعمة نعومة الحرير، مررت أكثر من مرة وفي عقلي تتردد أشياء كثيرة، وفي جسدي تتحرك أشياء كثيرة، توقفت وسحبت يدي ووضعتها في مكانها تحت رأسي، وأخذت أبحلق إلى أعلى الغرفة، رأسي على الوسادة، وعيني معلقة بالسقف)...
وبالطبع نلحظ بأن من أول القصة وحتى الآن، أن البطل لم يتحدث مع أحد، ولم يتحدث معه أحد، فقط هو يصف كل شيء بالغرفة وكيف يتعامل معه ويحس به، كما حدث مع الوسادة، إلى أن بدأ يتحاور مع نفسه ويسأله «وفجأة تساءلت: من الذي وضع رأسه على هذه الوسادة قبلي؟
وتجيبه نفسه وعقله الواعي، تاركًا لخياله أن يأتي بكل الإجابات التالية: (آلاف أو مئات وربما عشرات، لا أعتقد، فهيئة الوسادة والملمس يوحيان بجدتها، ربما فتاة رقيقة من عائلة غنية تتميز ببشرة حريرية فلم تتأثر الوسادة برأسها وخديها، ولا شعرت الفتاة أن أحدًا سبقها، ولو نطقت الوسادة لأكدت ذلك، وسادة على وسادة.. من كان قبلي في هذه الغرفة ووضع رأسه على الوسادة الحريرية ذات اللونين الأحمر والأبيض والرسومات الطريفة والروائح السحرية).
بل أتى بإحدى المشكلات الاجتماعية المنتشرة في بلادنا العربية، والخاصة بإجبار الفتاة على الزواج رغمًا عنها.
فتضطر إلى الهروب والزواج في السر، ثم إخبار أهلها بتلك الزيجة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بالإنترنت: (فتاة هاربة من أهلها بعد قصة حب عاصفة يحرمها المجتمع والعادات والتقاليد من الارتباط بحبيبها، فقررت الهروب هنا والتواعد مع الحبيب للتفكير في مخرج للحب الكبير، ماذا كان الحل؟ الزواج السري ووضع الأهل في مواجهة أمر واقع وليحدث ما يحدث، أم الهروب إلى دولة تدافع عن حقوق الحب، ونشر قصتهما عبر الإعلام المرئي والمسموع، أو الاكتفاء بفيديو على موقع يوتيوب، ووضع العالم تحت الأمر الواقع).
وهنا يعرض الكاتب للحق في الحب كونه حقًّا من حقوق الإنسان، والمقارنة بين احترام هذا الحق بين دول العالم المختلفة، طبقًا لاختلاف الثقافات والعادات والتقاليد الاجتماعية الموروثة في عصر المعلوماتية الرقمية.
اقرأ أيضًا دراسة نقدية في مجموعة حارس الغيوم القصصية
إحصائيات عن الهروب من الزواج
وقد أظهرت إحدى الدراسات التي أجريت في منطقة مكة المكرمة أن 97% من الفتيات الهاربات هن سعوديات الجنسية، وغالبيتهن وبنسبة 52% من حملة المؤهل الجامعي، وأوضحت الدراسة بعض التضارب، إذ تبين أن 54% من أولئك الفتيات هن بين الـ17 والـ21 من أعمارهن، ما يتنافى مع إكمالهن المرحلة الجامعية.
كما أوضحت الدراسة أن معظم الفتيات غير متزوجات وبنسبة 86%، ما يؤكد دور الاستقرار العائلي والأسري للفتاة، وأن ممارسة دورها ربة بيت وأمًّا، أمر مهم جدًّا في محاربة هذه الأفكار ورفضها.
والغريب في الدراسة أن 81% منهن يعشن مع والديهن ولا يعانين تشتتًا أسريًّا، كما أوضحت الدراسة أن آباء وأمهات أولئك الفتيات متعلمون ويحملون مؤهلات ما بين الشهادة المتوسطة إلى الشهادة الجامعية.
كما أوضحت الدراسة أن السبب الرئيس للهروب وبنسبة 41% هو وسائل التواصل الاجتماعي، والتغرير الذي يكون بتلك الوسائل لفتيات في مرحلة المراهقة (صحيفة "الوطن" السعودية، الأربعاء، 25 ديسمبر 2019م، الموافق 28 ربيع الثاني 1441 هـ).
ويعرض المؤلف لأهمية أن يخفف رجال الأعمال من كثرة الضغوط العصبية والنفسية التي يتعرضون لها، بسبب كثرة الأعباء الخاصة بعالم المال والأعمال على مدار العام.
وحاجتهم الملحة لأخذ قسط من الاسترخاء كل مدة، في هذا الفندق، والنوم على هذا السرير، والتمتع بهذه الوسادة الرائعة الجمال: (رجل أعمال خسر صفقات وتوقعات ومخططات، فأراد أن ينسى ولو لوقت قصير هزائمه المالية، فقرر أن يجلس في الغرفة ويضع رأسه على الوسادة وينسى قليلًا.. قليلًا.. قليلًا).
والشيء نفسه يسري على الشباب الذي يتعرض لضغوط الواقع فيحاول الهروب منه (شاب هارب من كل شيء بات فيها ليلة كمحطة سرعان ما يغادرها، ليستكمل الهروب إلى دولة يرى أن بإمكانه أن يحقق فيها طموحاته، بعيدًا عن الموت عاريًا أو الجوع الفكري والعطش الأخلاقي).
اقرأ أيضًا روائع عبد الوهاب مطاوع الجزء الأول
هروب الشباب من الوطن
ويطرح هنا المؤلف أيضًا لقضية هروب فئة الشباب من الوطن المتأزم والمنتشر فيه الأزمات، إلى بلد آخر يهيئ لهم كل سبل الأمان والراحة النفسية لتحقيق العيش السعيد.
وحين دراسة هروب الشباب نجد أن جملة من الأسباب السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية قادت إلى هذه الهجرة الجماعية والفردية (بلد لا أحد يسأله فيها عن اسمه واسم عائلته والمنطقة التي يعيش فيها، بلد لا تطارد مواطنيها باتهامات الوطنية والهوية والتهديد.. هنا تلقفته الوسادة، أعطته بعض الحنان والتفاؤل والأمل المفقود وإعادة التفكير في عائلته وصنع مستقبل جديد.. ربما).
فكثيرٌ من البلدان العربية تواجه مشكلات وتحديات اقتصادية على رأسها البطالة، سواء الظاهرة منها أو المقنعة، ومن نتائج العولمة تحول العالم إلى قرية صغيرة يسهل التبادل الثقافي بين الشباب فيها، وقد تغريه تلك الثقافات على الرغم من تعارضها مع قيم أمتنا وحضارتنا.
يتسم فن القصة القصيرة بالرشاقة وعدم الترهل بالمحسنات والجمل الإنشائية، جملتها قصيرة، وكلمتها ثاقبة، حبلى بزخم من الدراما لم يتحقق للقصيدة الشعرية، والتوحد يتم بين المتلقي والعمل الأدبي بسهولة ورفق.
اقرأ أيضًا سرقة النصوص وبشاعة هذا الفعل
نهاية غير متوقعة
وجاءت نهاية قصة «الوسادة البيضاء» للقاص السعودي «حسين السنونة» سريعة خاطفة، لا تستغرق الدقيقة في زمانه، قل نصف دقيقة، وهي مدة اتصال استعلامات الفندق به عبر الهاتف الداخلي الموجود بالغرفة، وجاءت المكالمة على النحو التالي:
صرخ هاتف الغرفة.
نعم.
مراحب يا سيدي عفوًا عن الإزعاج.
أبدًا عزيزي.. تفضل.
فقط وددت أن أخبرك أنه عليك مغادرة الغرفة.. سنقدم لك غرفة أخرى.
لماذا يا سيدي؟
نعتذر.. بالخطأ أعطيناك غرفة خاصة لمن يصطحب معه كلبًا أو قطة، وأعتقد أنك رأيت الوسادة الصغيرة، إنها خاصة بالحيوانات الأليفة التي ترافق أصحابها.
بالطبع نهاية صادمة وغير متوقعة، تصيب القارئ بالدهشة، ما يدل على مهارة الكاتب في نقل فكرته عبر أدواته السردية.
وكانت الوسادة البيضاء الصغيرة -إحدى بطلات القصة، بل تمحورت القصة حولها- لراحة الكلب أو القطة، وليس لراحة واحد من بني آدم، ليس لشاب أو شابة هاربين، أو لرجل أعمال يريد الاستجمام.
ولا حتى للبطل الراوي الذي ظل ساعة منذ دخوله الغرفة والاستلقاء على السرير يصف الوسادة من اللون والشكل والحجم والرائحة والنعومة، ويتخيل من نام عليها قبله من الرجال والنساء، الشباب والشيوخ...إلخ.
ولكنها في نهاية الأمر كانت وسادة لراحة الحيوانات الأليفة، فهنا لا بد أن تقدم إدارة الفندق جميع وسائل الراحة لتلك الحيوانات، باعتبارها حقًّا من حقوق الحيوان!!
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.