"هذا صباح مناسب للمشي، فالأرض تبدو لينة، وضوء الشمس ناعم لا يجرح، وثمة زهور في الخارج يمكن قطفها، كما أن السماء ليست غاضبة على غير عادتها، بإمكاني المشي قفزًا، بإمكاني الجري، أريد الوصول. هذا العالم أريد أن أرى نهايته، أريد أن أرى بدايته. أريد أن أرى مدنه القديمة، بحاره ومحيطاته، والأماكن المجهولة، والخربة، أريد أن أرى كل شيء، وأفقد نفسي". كان الرجل القديم يردد هذا الكلام أمام زوجته، لكنها لم تكن تفهم، هي لم تتهمه بالجنون، لأنها لا تعرف ما هو الجنون؟ لم تتهمه بشيء ولم تقل شيء لأنها لا تعرف أن تقول شيئًا، هي موجودة لأنها موجودة وفقط، لا تحمل في عقلها أو في قلبها أي شيء، ربما تنتمي إلى إحدى السلالات البشرية القديمة التي يُقال أنها انبثقت من الطبيعة، بكل جمالها ووحشيتها وحزنها. إنها حادة مثل الغاب، ثابته مثل الشجرة، رقيقة كالورود لكنها لا تعرف شيئًا. كل شيء كان محفزا لرحيل الرجل القديم: الزوجة التي لم تفهم شيئًا، الصباح الذي فتح الطريق أمامه واسعًا، الطيور التي أظهرت اليوم حبها له، والصوت البعيد الذي لم يتوقف عن مناداته.
في ذلك الزمن البعيد، كانت الأرض مازالت طازجة وكأنها خُلقت للتو، وكذلك كان البشر، يتهجون الحروف الأولى للكون وسط عدد محدود من الكائنات، يحفظها الجميع وينادونها بالإسم. وكان من السهل أن يصبح أحدهم إلهًا أو نبيًا، دون أن يلعنه أحد. في ذلك الزمن البعيد كان العالم طريق طويل، اختار الرجل القديم أن يقطعه بقدميه المدببتين، للوصول إلى السر.
خرج الرجل القديم من بيته الكائن على أطراف البلدة، خرج كشعاع من ضوء الشمس، وحين خرج، عادت الزوجة التي لم تعرف شيئًا إلى أصولها الأولى، أما الرجل القديم صديق الليل والمياه، والأسماك، فقد خطى أولى خطواته على الأرض، ذاهبًا إلى مصيره، بصحبة الشمس والطيور، والأحجار، والأزهار البرية، وكل ما وقعت عليه عينه. في بداية الطريق، نظر الرجل القديم بعينيه العميقتين إلى المدي وقال: إن العالم شارع طويل، يبدأ من بيتي، وينتهي عند نهاية الشارع حيث الحفرة العميقة التي يوجد بها السر. وهكذا ظل الرجل ماشيًا في طريقه، يقفز من الفرحة، عندما يمر على إحدى البحيرات، أو الحدائق المهجورة، فثمة شعور عظيم وغريب يسيطر عليه عندما يمر على هذه الأماكن، شعور لم يعرف كيف يمكن وصفه، لكنه يعرف أنه ينتمي ربما إلى بحيرة قديمة أو حديقة مهجورة، يشعر بأنه ينتمي إلى هذه الأشياء أكثر من إنتمائه إلى الجنس البشري.
في أحد الصباحات مر على بيت مهجور، قال: لابد أنه بيت الشمس، وفي هذا المكان أيضًا سأعثر على بيت القمر، وسأعرف الكثير من الأسرار، بل كل الأسرار. دخل بيت الشمس فلم يجد سوى الدماء، خرج الرجل القديم مفزوعًا وهو يقول: العالم شارع طويل في منتصفه مذبحة، إن عبرتها سأصل إلى النهاية، حيث الحفرة العميقة التي يوجد بها السر. لعدة سنوات ظل الرجل القديم ماشيًا في الأرض، يتغذى على أوراق الشجر، والزهور البرية، ويشرب من العيون المتفجرة بالمياه، وذات مساء حين اقترب من منتصف العالم، سمع دوي أصوات هائلة، وشم رائحة الدماء، قال إنها المذبحة: علي أن أعبر، حتى أصل إلى السر. لكني أخشى أن تسيل دمائي قبل الوصول. علي أن أصبح ظلًا. أيتها الشمس، أيتها المياه، أيها الليل، أيتها الطيور، أيتها السماء، ساعدوني كي أصبح ظلًا. ولأن الرجل القديم كان صديقًا جيدًا للشمس والمياه، والليل والطيور والسماء، ولأنه لا يملك اسمًا، فقد تخطى المعركة دون أن يلمحه أحد، وكان يقول: أنا الرجل القديم أريد شربة ماء كي تعيد لي جسدي، أريد أن أمسك السر بيدي.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.