إنه المشهد الأخير عندما يموت البطل، استعدوا و ليأخذ الجميع أماكنهم، عم الصمت المكان وبدأ المخرج بالعد التنازلي، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، أكشن Action..
صعد على الكرسي و نصب المشنقة و شد وثاقها، راح يجول بنظره على كل شيء حوله..
يا لكِ من غرفة بائسة عفنة، لقد حاولت التخلص منكِ بشتى الطرق لكن لم أفلح بهذا، كيف لمُعدَمٍ مثلي أن يتجرأ ويحلم ببيت تجول به الشمس، وتداعب الريح ستائر النوافذ، في وطن أبخل من أن يمنحك الحق بأن تحلم، ها أنا قد خسرت وظيفتي لأنني أمتلك بضع قطرات متبقية من لكرامة التي أهدرت على مرّ الواحد و الثلاثون عاماً ، إياك و أن تشير إلى الخطأ أغمض عينيك واقطع لسانك وضع سدادة في أذنيك، لقد جملت العبودية اليوم بالزي الرسمي و الكرافتة، داهن.. تملق.. نافق، تترقى من عبدٍ صغير إلى عبدٍ كبير تشرف على بقية العبيد، إما أن تكسب عملاً وتخسر نفسك، أو تكسب نفسك لتخسر كل شيء.
لكل حدث تبعياته، تركت الفتاة التي أحببتها بعد ذلك، لا ألقي باللوم عليها، الحب لا يسكت معدةً تقرقع من الجوع، ولا يمنح الدفء لجسد يرتجف من البرد، كلمات الحب تمنح النشوة للروح ولكن سرعان ما تذهب هذه النشوة، عند رؤية معطف أو حذاء أو حقيبة لا تستطيع شرائها لتتباها بها أمام صديقاتها و أقاربها.
لقد أخبروك قبل أن تحيا نشوة الحب، أنت فقير لا تصلح لهذا، أنسيت ما قد قيل: إذا دخل الفقر من الباب ولّى لحب هارباً من النافذة، هما ضدان لا يجتمعان كالماء و النار، فلا تجازف، ولكن نفسك أبت إلا أن تصطلي بالهيب المجازفة وها أنت تتذوق سكرات الفراق وحدك.
أين هم أصدقاؤك الذين زعموا أنهم لن يتخلوا عنك و الذين اعتقدت أنهم الكتف الذي تسند رأسك عليه إذا مالت بك الحياة.
لقد بعثرتهم الحياة بريح المصالح العاتية فلم تبقِ لك أحدا منهم و لم تذر.
مالت بك الحياة وتهشمت الكتف ونفسك جاثية على ركبتيها لا يسعها النهوض، أنظر إلى أحلامي تنهار دفعة واحدة والخراب يتسرب إلى داخلي، وأنا أقف عاجزاً عن الحراك، أصيح مستغيثاً حتى بُحّ صوتي فلا أسمع سوى ارتداد الصدى، لا ملجأ ولا منجى قد أصبت من أمري عسرًا وأحيط بي من كل جانب.
بدأت الهلوسة تتسرب إلى رأسي والظلام يسري بجسدي وأمام ناظري، لقد انتهى أمري ولم أجد موطئاً لقدمي فوق هذه الأرض، ليكن موتي بصمة عار على جبين هذه الحياة اللعينة.
لفة حبل المشنقة حول عنقه ورمى لكرسي من تحته وحلق كالطائر الذي نال حريته بعد سنين من الاعتقال داخل القفص، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، سرت بداخله نشوة الانتصار وأغمض عينيه مبتسماً.
STOP أوقف لتصوير..
صفق الجميع بحرارة..
صاح المخرج: كان مشهداً رائعاً يا أستاذ لقد أبدعت به جداً و بدا وكأنه حقيقي حتى الكلمات التي ارتجلتها من خارج النص كانت ممتازة وفي مكانها، سيكون لك مستقبل رائع بالتمثيل.
أستاذ، لقد انتهينا.. أستاذ، هل تسمعني؟
لكنه ظل يتأرجح على الحبل دون أن يبدي أي ردة فعل.. هرع الجميع إليه وأنزلوه، كان جسده بارداً تماماً وعيناه مغمضتان وثغره باسماً.
وضع المخرج رأسه على صدره ليسمع نبضات قلبه، لكنه لم يسمع شيئاً، رفع له يده فهوت، لقد شنق نفسه فعلاً.
أصابت الدهشة وجوه الجميع و كأن على رؤوسهم الطير..
قطع الصمت صراخ المخرج.. ماذا فعلت بنفسك يا مجنون؟ لماذا؟
تحسّس جيبه فوجد بداخله ورقة، أخرجها وفتحها:
"ربما كان هذا الخبر السعيد الوحيد الذي حصلت عليه منذ زمن، حينما اتصل بي المخرج وأخبرني أن الممثل اعتذر عن تصوير هذا المشهد ولأنني أشبهه قليلاً ، سأقوم بالتصوير عوضاً عنه، ومنذ ذاك الوقت وأنا أنتظر هذا المشهد بفارغ الصبر..
أعتذر إن أضفت بعض الكلمات من خارج النص لكني أردت أن أبوح بما اختزنته في صدري طيلة أعوام ولم أجد أحداً أبوح له ، ثم أتتني هذه الفرصة وأردت أن أبوح وأصرخ وسيسمعني الجميع وربما يتأثر البعض في المشهد ويذرف بعض الدموع ولكن هذا لا يهم الآن.. أنت نلت أفضل مشهد لأنه تحول لحقيقة، وأنا نلت حريتي للأبد، وليكن موتي بصمة عار على جبين هذه الحياة اللعينة".
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.