ما نعرفه أنّ المرأة كلّما زاد جمالها زاد مهرها، أمّا في جنوب السودان فالأمر مختلفٌ تماماً، حيث إنّ المرأة كلّما زاد طولها أصبح مهرها أغلى، وممّا يخطر في بال القارئ أنّ القناطير من الذّهب والفضّة هو المهر السّائد هناك، إلّا أنّ المهر الحقيقي هو البقر!
إن تربية الأبقار والمواشي متداولٌ بين النّاس لكن أن نعيش لأجلها جَعل للقصّة مفهوماً آخر، وبالتالي تتقاتل قبائل المنطقة مثل النوير والدينكا والشلك والبارية النيلية على امتلاك البقر، وتحوِّل هذا الصّراع إلى اشتباكاتٍ دمويّةٍ ذات غاراتٍ متواصلةٍ، وتعد الأبقار المنتشرة في النّيل ذات القرون الطّويلة إرثاً خاصاً لبسط النفوذ والهيبة. والجدير بالذّكر أنّ هذه الأبقار لا تُذبح ولا تؤكل بل يقتاتون من ألبانها، وعلى صعيدٍ آخرَ فمن لا يملك أبقاراً لا يستطيع الزواج؛ لأنّها المهر الوحيد المتعارف عليه بين هذه القبائل، أمّا الفتاة سعيدة الحظّ هي التي تكون طويلةً وبيضاء الأسنان والتي قد يصل مهرها إذا توافرت فيها هذه الصفات نحو خمسمائة بقرةٍ، حتى إنّ الطقوس التي يمارسونها عند طلب الفتاة للزواج مقترنةٌ بأعداد البقر لكلّ قبيلةٍ، كما أنّ هناك عرفٌ سائدٌ وهو أنّ الرجل الذي يخطف فتاةً من قبيلةٍ أخرى لا يعود بها خاطفها إلّا بِكَمٍّ من البقر وبشروطٍ معيّنةٍ يشترطها زعيم القبيلة الملقّب بـ "زعيم جلد النمر"، ودون البقر يتحوّل هذا الخطف إلى عداءٍ.
تتمتع الفتاة الطّويلة بميزاتٍ كبيرةٍ داخل هذا المجتمع، حتى إنّ الرجل الذي تتكاثر البنات الطويلات في أُسرته يكون مُهاباً، فما إن يفكّر بتزويج بناته تَحين فرصته لامتلاك الكثير من البقر، وبالتالي جلب النّفوذ إلى حياته، لا يقف الأمر عند هذا الحدّ بل من الممكن أن يصل عند بعض القبائل إلى القداسة حتى إنّ الّنساء يستخدمن روث الأبقار في الزّينة بعد إحالته رماداً واستخدامه مع بعض الزيوت في دَهن الجسم والشَّعر ضمن طقوسٍ غريبةٍ، أمّا الرَّقَصات التي يرقصونها فهي مستوحاةٌ من قرون الأبقار وحركاتها وتشابكها ممّا يجعل حياتهم كلّها متعلّقةً بالأبقار منذ نشأتهم حتى وفاتهم.
مراح البقر هو مجتمع النّشأة بالنسبة إليهم، فالأطفال منذ الصّباح الباكر ينظّفون الروث ويشعلون النّار فيه لتطهير المكان من الحشرات والهوام، ويقومون برعاية الأبقار وتقديمها نحو المرعى للحصول على الألبان ومنتجاتها. ترتبط بينهم أحكامٌ عرفية صادرةٌ عن زعيم جلد النمر الذي يسعى دائماً لحلّ الخلافات التي تنشب بين القبائل بسبب حروب البقر والاستحواذ عليها، حيث إنّ هذه الخلافات تشتعل بين كلّ فينةٍ وأخرى بسبب الثّأر بين القبائل، والمعارك القائمة على حروب استعادة الأبقار أو الحفاظ عليها، فقد خسروا ضمن هذه الحروب الأهليّة الكثير من الشُّبّان والرّجال الذين لقوا حتفهم جرّاء هذا الصراع المحموم الذي لو وقفنا للحظةٍ بباب المنطق سنقول: "لماذا كلّ هذا؟"، وربّما سنرى أنّ الفتاة الطّويلة ليست محظوظةً بل تعيسةً، فحياتها مرهونةٌ بنفوذ والدها أو الاقتتال للحصول على البقر الكثير للظفر بالزواج منها، لكن بالتالي لكلّ شعبٍ وحيه وأسلوبه في المعيشة حتى لو كانت ضمن منطقنا معقّدة، ربّما تكون بالنسبة لبيئتهم وحياً استثنائياً، حتى إنّنا نجهل سبب تفضيلهم المرأة الطّويلة، ولا نعرف ماهية أفكارهم ومعتقداتهم، ولماذا بلغت الأبقار هذه الأهميّة لديهم؟ والمفاجأة التي أبهرتني في البحث عن عاداتهم وتقاليدهم أنّهم يستحمون ببول البقر ظنّاً منهم أنّه يقوّي الشّعر، فقد تعايشوا مع البقر حتى أضحى إرثاً للزعامة ومهراً للزواج، كما يأكلون منها ويتزيّنون بروثها، وغدت مقياساً للثّروة، فعندما نعرف كم بقرةً يمتلك الرّجل سُرعان ما عرفنا كَم تبلغ ثروته وما هو منصبه وما مقدار نفوذه.
سبتمبر 25, 2021, 11:19 ص
اضافة جيدة
سبتمبر 25, 2021, 1:25 م
شكرا جزيلا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.