عندما سلمتُ على تلك المرأة في بيت جدي في إحدى قرى سوهاج، كنت كمن حشر يده في قطعة قماش خشنة. هذا المشهد الملموس يظهر واقع ملايين النساء اللاتي يمثلن العمود الفقري للاقتصاد الريفي في مصر، عبر العمل غير المأجور. ويغفل كثيرون عن أن هذا الجهد، على الرغم من أهميته في تحقيق الأمن الغذائي، يبقى عملًا غير مرئي لا يُحسب ضمن الناتج المحلي.
يسلِّط هذا المقال الضوء على قضايا المرتبطة بحقوق المرأة الريفية، ويكشف الفجوة الصارخة بين حجم مساهمتها الاقتصادية ونسبة ملكيتها لحقوقها، في تحليل شامل للواقع وتقديم للحلول.
يدٌ خشنة وقصة منسية: مدخل إلى واقع المرأة في ريف سوهاج
عندما سلمتُ على تلك المرأة في بيت جدي في إحدى قرى سوهاج، كنت كمن حشر يده في قطعة قماش خشنة. وعندما قبَّلتني، رأيتُ عن قرب وجهها الأسمر الذي أنهكته الشمس. سلَّمت عليَّ بعدما وضعت حزمة البرسيم المتفق عليها بينها وبين جدتي، لا أعلم نظير ماذا.
كانت امرأة من العائلة الممتدة، تعمل -كغيرها من النسوة- في حقول الأزواج والعائلة الصغيرة، أو في قطع زراعية تُسمَّى «أحواض»، غالبًا ما تُزرع بالبرسيم أو أعشاب صغيرة سهلة الحشِّ كالملوخية والكزبرة. تعمل في البيت وخارجه، تغسل وتطبخ كأي امرأة، وتحشُّ البرسيم وتهتمُّ بالبهائم كأي فلاحة.
ربما لن تعلم أبدًا أنه في الخامس عشر من أكتوبر، يوم مخصص لها كونها امرأة ريفية (Rural Woman)، يوم واحد فقط نتحدث عما تفعله طيلة حياتها في الزرع والبيت، نكشف فيه الستار عن يدها الجافة وظهرها المتألم من العمل غير المرئي (Invisible Work).
العمل غير المرئي: حين تكون المرأة مسؤولة عن 80% من الغذاء
وفقًا لتقارير، تعد المرأة مسؤولة عن نصف إنتاج الغذاء في العالم. وفي البلدان النامية، تنتج ما يصل إلى 80% من الغذاء. وتتكيف النساء باستمرار مع التحديات البيئية، فلقد تعلمن -بصفتهن مزارعات- كيفية التعامل مع تغير المناخ، بممارسة الزراعة المستدامة أو التحول إلى البذور المقاومة للجفاف أو قيادة جهود إعادة التشجير.
الصورة النمطية والواقع الاقتصادي للمرأة
في الأعمال الفنية والدراما، يظهر الفلاح دومًا رجلًا أسمرَ، يلفح وجهه شمس الحقل. في حين تُرسم زوجته في مشهد دائم: قابعة أمام الفرن، تنتظر عودته من «الغيط». لكن في قريتي، بمركز جرجا بمحافظة سوهاج، لم يكن الأمر كذلك. فالريف ليس فقط الأرض والمحصول، بل أيضًا بهائم تسكن «الأحواش» وطيور تُربى على الأسطح.
إن النساء في الريف يعملن في صمت، يعملن في كل شيء. ووفقًا لبيانات حديثة، تمثل النساء نحو كثير منهن دون عقود، دون أجر، ودون اعتراف قانوني.

اقتصاد موازٍ لا يُحتسب: كيف تُبقي النساء الأسرة على قيد الحياة؟
في طفولتي، شهدت نوعًا من «الاقتصاد الموازي» أو داخل بيوت القرية. كان البيض، مثلًا، سلعة أساسية. يُباع أو يُستبدل بحاجات أخرى مع الجيران.
الطيور، التي تربيها النساء وحدهن، تمثل مصدرًا أساسيًا للبروتين. أما تربية المواشي المنزلية فهي مسؤولية نسائية بالكامل. لا أذكر غير زوجة عمي وهي تسير بـ«سطل الماء» لتسقي الجاموسة، التي توفِّر الحليب والقشدة والجبن للعائلة الكبيرة.
هذا «العمل» الذي يُبقي الأسرة حية، لا يُحسب ضمن مهامها، ولا يُصنَّف «وظيفة». وتشير تقديرات إلى أنه إذا تم سد الفجوة في التوظيف بين الجنسين، يمكن أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي لمصر بنسبة 34%، مما يوضح حجم القيمة الاقتصادية المهدرة.
فجوة الملكية والميراث: لماذا لا تملك النساء الأرض التي يزرعنها؟
على الرغم من كل هذا الجهد، لا تملك النساء شيئًا تقريبًا. ففي حين بلغت نسبة الأمية بين النساء في بعض قرى الصعيد نحو 86%، لا تزال مسألة ميراث البنات قضية شائكة تُقاوَم تحت شعار «حفاظًا على الأرض من الغُرباء».
وفقًا لإحصائيات وتقارير بحثية، لا تتعدى 6.4% من ملكية الأراضي الزراعية في مصر حيازة نسائية، على الرغم من أنهن يعملن في الأرض يوميًا. وهكذا، تبقى المرأة الريفية في مصر العمود الفقري للاقتصاد العائلي، دون أجر، دون ضمان اجتماعي، ودون أوراق ملكية. فالملكيَّات الوحيدة التي تمتلكها كثير منهن، هي تلك التي لا تُسجَّل في الشهر العقاري، ولا تُورَّث رسميًا؛ يملكن الماشية الصغيرة، كالدواجن والماعز، ملكيات أشبه بالهواء.

حلول لتمكين المرأة الريفية: من التعليم إلى العدالة الاقتصادية
كثير من نساء الريف، هنَّ نسخ مكررة من قريبتنا تلك: يعملن ويصنعن اقتصادًا وبيوتًا، ولا يملكن منها شيئًا. لكن الحلول ليست مستحيلة، وتعمل الدولة المصرية بالتعاون مع منظمات دولية على مبادرات واعدة:
-
تفعيل التعليم الإلزامي في القرى: يعد منع تسرب الفتيات من التعليم أساس الوعي بالحقوق والسبيل الأول للتمكين.
-
ضمان الحق في الميراث: تطبيق القانون بعدالة لضمان حيازة النساء للأراضي التي يعملن فيها هو أحد أهم مطالب العدالة الجندرية.
-
دعم الشمول المالي والمشروعات الصغيرة: تبرز هنا مبادرات مهمة، مثل المشروع القومي بالتعاون بين المجلس القومي للمرأة وهيئة الأمم المتحدة والبنك المركزي، يهدف إلى دمج المرأة الريفية في الاقتصاد الرقمي عبر مجموعات الادخار والإقراض الرقمي.
-
التدريب المهني والاعتراف بالعمل: أطلقت وزارة القوى العاملة في أغسطس 2025 مبادرة التي تستخدم وحدات تدريب متنقلة لتعليم النساء الحرف التراثية واليدوية، بهدف خلق فرص عمل مستدامة وتسجيل النساء العاملات في الزراعة رسميًا لضمان حقوقهن.
ربما آن الأوان أن نُسلِّط الضوء لا على الرجل العائد من «الغيط»، بل على من كانت هناك قبله، ومن بقيت بعده. إن تحقيق التنمية المستدامة والأمن الغذائي لمصر لن يكتمل دون الاعتراف الكامل بالمساهمة الاقتصادية الهائلة للمرأة الريفية. فالعدالة لا تعني فقط تقدير جهدها، بل ضمان حقوقها في الأرض، وفي الأجر، وفي مستقبل تستحق أن تملكه كما تملك قوة إنتاجه.
محتوى رائع لكن يا اختي غيري اسم والدك عبدالنبي هذا كفر لا يجوز نحن عبيد الله وحده
مقال رائع
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.