"المرأة التي تعيش في نهاية الزمان".. المعجم السيكولوجي للنساء

على حافة العالم، وفي أطراف الكون، التي تعد مرتكزات أو أعمدة أساسية تحفظ العالم من السقوط، تعيش المرأة الأبدية الخالدة، هذه المرأة التي تجمع عظام الموتى، ثم تنطلق بالغناء فوقها، تغني حتى يُبح صوتها، لتندلع الحياة من جديد. هذه هي الأسطورة المركزية، التي بنت عليها المؤلفة والقصاصة وعالمة النفس أمريكية الجنسية ذات الأصول المكسيكية والإسبانية، وكذلك المجرية بالتبني "كلاريسا بنكولا" مؤلفها المهم والممتع "نساء يركضن مع الذئاب.. الاتصال بقوى المرأة الوحشية" الذي يعد المعجم السيكولوجي للأنوثة الغزيرة والمبتهجة والمتفردة، حيث تسترجع "بنكولا" في كتابها الفريد المناطق المنسية والمهملة في النفس الأنثوية من خلال سردها لأساطير وقصص لنساء قويات مبتهجات بالحياة، استطعن تحطيم كل الحواجز التي أعاقت تطور حياتهن، من خلال استعادة قوة المرأة الوحشية التي توجد بداخل كل النساء غير أنها دائمًا ما تواجه بالنفي والتحطيم من جانب المجتمع وبعض المعتقدات الخانقة والرتيبة التي تكرس لكل ما هو خامل ومستقر، وقاتل للقوى الروحية التي تتمتع بها النساء. 

أنفقت "بنكولا" أكثر من عقدين من عمرها في إعداد هذا الكتاب وتجميع مادته من قصص وأساطير تجسد نموذج المرأة المتوحشة التي تتميز بقوة الروح، والشجاعة، والمعرفة العميقة بالأرض والحياة تمامًا مثل الذئاب، حيث توصلت "بنكولا" من خلال دراستها لبيولوجيا الحيوانات المتوحشة، إلى أن دراسة الذئاب تشبه دراسة تاريخ المرأة من ناحيتين: تميزها بالقوة الروحية ومعاناتها لآلام الولادة "تشترك الذئبة القوية مع المرأة القوية في خصائص نفسية واحدة، حيث تتسمان بصدق المشاعر والروح المرحة والقدرة العالية على العطاء" فالمرأة والذئبة بطبيعتهما ترتبطان بعلاقة قرابة، كلتاهما فضوليتان تتمتعان بقدر عظيم من الإخلاص والتفاني والإدراك الداخلي والمشاعر العميقة تجاه صغارهما. 

إن المرأة الوحشية، هي القوة لكل النساء، هي معرفة الروح التي بدونها لا تكون للمرأة آذان تسمع بها حديث الروح داخلها أو تلتقط بها صوت الأجراس الصادرة من إيقاعات النفس العميقة، وبدونها تفقد بصيرتها الداخلية وتقضي غالبية أيامها فيما يشبه العجز الكئيب أو في أي نوع من التفكير السطحي القائم على التمني وبدونها تفقد المرأة رسوخ الروح وثباتها، ونظرًا لأنها تتسم بالصمت ونفاذ البصيرة والعمق عند الروائيين، فإنها تسمى الطبيعة الحكيمة أو المعرفية، ويطلق عليها أحيانا: المرأة التي تعيش في نهاية الزمان أو المرأة التي تعيش على حافة العالم، وهذه المخلوقة هي دائما عرافة ساحرة أو إلهة للموت أو تنحدر من سلالة عذراء، وهكذا إلى أي عدد من التجسيدات التي تصورها. وهي الصديقة والأم لكل اللواتي فقدن طريقهن. 

تستعرض "بنكولا" في كتابها أو بالأحرى معجمها السيكولوجي، مجموعة من القصص التي بدورها تبعث الحركة في أعماق الروح، وهو أمر في غاية الأهمية وخصوصًا إذا كانت روح المرأة محصورة أو مأزومة، فقصص "بنكولا" التي تحكي عن نساء قويات، تغلبن على ظروفهن القاسية، ومعاناتهن من القمع الذي يتعرضن له من قبل المجتمع، تدفع بالأدرنالين، وتفتح للنساء أبوبًا رائعة ورحبة في الحوائط التي كانت مصمتة من قبل. إن قصصا مثل "قاتل الزوجات" بلوبيرد تحمل إلينا أنباءً عما ينبغي فعله إزاء جرح المرأة الذي لا يتوقف نزيفه، وتوضح لنا قصة مثل حكاية "المرأة العظمية" القوة الغامضة للعلاقة وكيف يمكن أن تعود المشاعر الدفينة إلى الحياة وتتحول إلى حب جارف مره أخرى. 

ثمة حكاية مركزية اتكأت عليها "بنكولا" في مؤلفها، هي حكاية "لالوبا" التي سمعتها أثناء جولاتها ورحلاتها في الأراضي الواقعة على حدود تكساس، و"لالوبا" هي المرأة التي كانت ذئبة، أو الذئبة التي كانت امرأة، والعمل الوحيد لها هو جمع العظام، فهي معروفة بأنها تجمع العظام وتحفظها وخصوصا العظام المعرضة للضياع في هذا العالم، ويمتليء كهفها بالعظام، من كل نوع من مخلوقات الصحراء: الغزال، الحية ذات الجرس، الغراب، لكن يقال إن تخصصها هو الذئاب. تزحف "لالوبا" بين الجبال، تنقب وتتفحص المجاري الجافة للأنهار بحثًا عن عظام الذئاب، وعندما يتجمع لديها الهيكل العظمي الكامل، وتضع العظمة الأخيرة في موضعها، ويتمدد أمامها الهيكل الأبيض الجميل للمخلوق الذي جمعت عظامه، تجلس أمام النيران وتفكر في الأغنية التي سوف تغنيها، وعندما تبدأ بالغناء، تبدأ ضلوع الذئبة وعظامها وأرجلها تكتسي باللحم وينبت لها الفراء، وتستمر "لالوبا" في الغناء وتبدأ المخلوقة بالقفز والتنفس. في الحكاية تغني "لالوبا" فوق العظام التي جمعتها، وأن تغني يعني أنها تبعث الروح في الجزء المعتل أو الجزء الذي تحتاج إلى استرجاعه، ويتحقق هذا بالغوص إلى أعماق النفس حيث الحب العظيم والمشاعر الدافقة، لكي ندفع إلى السطح الرغبة في التواصل مع النفس الوحشية. 

تدفعنا "بنكولا" إلى العثور على المرأة الوحشية من خلال العودة إلى الحيوات الغريزية والمعارف الأولية، إنها تحثنا على أن ننطلق، وأن ننزع عنا أي رداء زائف، لنرتدي الرداء الحقيقي للحدس الغريزي والمعرفي، تقول لنا: نقي عوالم الروح التي كانت يوما ملكًا لنا، حلي الضمادات وجهزي الدواء. دعينا نعود الآن فالمرأة الوحشية تعوي، تضحك، تغني، إنها المخلوقة التي تحبنا جميعا. القضية بسيطة بالنسبة لنا، بدوننا تموت "المرأة الوحشية"، وبدونها نحن نموت، ومن أجل حياة حقيقية ينبغي أن تعيش كلتانا. 

شاعرة وكاتبة صحفية مصرية

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

نبذة عن الكاتب

شاعرة وكاتبة صحفية مصرية