المرآة الحزينة.. قصة قصيرة

تسللت أشعة الشمس الذهبية بين خصلات شعرها المتموج لتزيد من وهجه الأشقر، فتحت عينيها ببطء لتنظر حولها بتكاسل لعلها تتذكر ما حل بالأمس أو تستعيد حلم الليلة الفائتة.

أغمضت عيناها من جديد، وأطبقت بجفنيها على لون شعاعهما الأزرق الساحر، لم تعد تذكر شيئاً من حلمها الذي طالما طاردها كلما غالبها النعاس..

لماذا أنا بالتحديد؟

ولماذا يحدث لي كل هذا؟ 

استعادت بعد لحظات ذلك الوجه الحزين المتألم الذي يئن بصمت ويبكي بحرقة، تذكرت الدماء التي تسيل من جسده ورأسه، ماذا حل به؟

ولماذا ينظر إليّ وينادي باسمي مع أنني لا أعرفه؟

تساءلت شهد في صمت وهي تجاهد بكل قوتها حتى تبدأ يومها الذي لا يختلف كثيراً عن البارحة، صوت تغريد الطيور حولها أنعشها، ورائحة النسيم المحمل بعبق الأرض الخصبة والثمار الناضجة والأزهار المتفتحة أبهجها قليلاً.

لعل مشكلة الإنسان الوحيدة هي التعقيد اللامتناهي الذي يغرق نفسه فيه، ويواصل العيش فيه بإصرار يفقده معنى الحياة.

لماذا لا يكون البشر ببساطة هذا العصفور الذي وجد طريقه إلى النافذة وهو يبحث بتأنٍ وصبر عما يشبع جوعه ويسد رمقه؟

أخيراً قررت شهد النهوض لإكمال ما بدأته بالأمس، كانت اللوحة ذاتها تنتظرها بخلفيتها البيضاء عدا بضع شجيرات هنا وهناك، تساءلت عما سيبدو عليه منظر الجدول الذي يخترق اللوحة بعد أن تكتمل.

تناولت شهد فطورها المعتاد من الزبدة والخبز المحمص وبعض القهوة، تأملت وهي تتناول الطعام الكوب الذي أمامها على الطاولة وهو ينشر عبقه في الغرفة.

ألسنة الدخان الرقيقة تبدو سابحة في ضوء الصباح وكأنها أدخنة بركان ثائر في جزيرة قاحلة.

ارتشفت قليلاً من القهوة الساخنة، فانسابت ذكرياتها وتسللت إلى وجدانها من جديد مع دفء مشاعرها، وجدت شهد نفسها تعيش هذه الحياة الجديدة منذ عدة سنوات، عائلتها وأصدقاؤها فرحوا بشفائها وعودتها، لكنها الوحيدة التي تصارع ألماً لم تستطع البوح به لأحد.

لماذا تستعيد كل صباح ذلك اليوم الذي استيقظت فيه وهي على السرير الأبيض تحيط بها ممرضة وسيدة وقورة علمت فيما بعد أنها أمها؟

وقتها لم تعد شهد تشعر بآلامها الجسدية كما كانت من قبل، لكنها كانت لا تزال تعاني من آلام تفوقها عشرات المرات، تذكرت وجه أمها الضاحك وصوتها الذي يضج بالفرح؛ لأنها استعادت ابنتها من جديد، أين أنا؟

كل ما استطاعت أن تتساءل عنه بصوتها الخافت، عندها علمت أنها استعادت وعيها بعد أشهر من الحادث الذي تعرضت له، أسئلة كثيرة كانت تدور في ذهنها المتعب، وأولها لماذا تبدو كل الوجوه غير مألوفة لديها؟

لماذا يبدو الجميع سعيداً عداها؟

كل شيء يبدو متناغماً في انسجام أما هي فقد كانت كالغريب الذي يبحث عن طريقه الذي ألفه منذ سنيين.

اقرأ أيضًا قصة "سيدتي الماجدة".. قصة قصيرة

مضت أيام وأيام وهي تغالب دهشتها، وهي تنتظر أن تستفيق من هذا الكابوس المزعج، "أين منزلي الذي عشت فيه طفولتي؟ وأين هي أمي وأصدقائي؟ لماذا يصر الجميع على أنهم يعرفونني مع أنني لم أشاهد أحداً منهم من قبل؟

صوت داخلي يأمرني بأن أستفيق، ولكن الواقع الغريب يطوق عقلي، أنا لم أستيقظ بعد من غيبوبتي، فعلاً لم أستيقظ بعد؛ لأنني لا أزال أبحث عن ذاتي الحقيقية التي توفيت معي في الحادث... تساءلت بحيرة ومرارة.

لم تجرؤ شهد على البوح لأحد بسرها العميق، ظلت لأيام ترقب الجميع بنظرات صامتة، وتقابل ابتساماتهم ببرود زائف يخفي لهيب النار المتأججة في عقلها، عذرها الجميع لأنها برأيهم تحت تأثير الصدمة؛ ولأنهم فقدوا الأمل بنجاتها من قبل.

تفقدت حالها، ما زالت تحتفظ بسمعها وبصرها وحركتها الطبيعية، لكن كل ذلك يسير وفقاً لنغمات متنافرة تفتقد التناغم والتوافق التام، حاصرتها ذكرياتها من كل جانب، ولكنها كانت صفحات فارغة لكتاب دون عنوان.

لماذا لا يحكي لها أحد ببساطة كيف كانت حياتها في طفولتها، ويرسم لها الصورة التي تفتقدها، وتحاول جاهدة لاستعادتها.

ظلت لأيام تتجول في منزلها وغرفتها، ولا تجد غير أسماء غريبة، وصوراً لأناس ليسوا سوى أشباح في مخيلتها، "هل هذا هو كتابي المفضل، وهل هذه هي مقتنياتي الثمينة؟".

فكرت في استشارة طبيبها، ولكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة، فقد عرفت مسبقاً الجواب:

- يا آنسة، هذه عوارض طبيعية سوف تزول مع مرور الوقت، لا تقلقي"...

لكنها ما زالت باقية، واستمرت لأسابيع وأشهر، تحول كل شيء حولها لشك قاتل وحيرة مستمرة، افترسها سكون الليالي المظلمة وضجيج ساعات النهار المثقلة بالهموم بمخالب فولاذية تتلذذ بتمزيقها إلى أشلاء مبعثرة.

تحولت صرخاتها إلى نبضات قاتلة، احتبست الدموع في عينيها، وتجرعتها كسم قاتل، كل شيء من حولها يرقبها بدقة، المرايا، والكراسي، والأبواب التي تصطك بشدة كلما لمستها، كانت شهد تعيش في عاصفة من الغضب، بين أمواج متعالية من الإنهاك والقلق، كانت تطارد سراباً وحقيقة ضائعة، كانت في قاع وادٍ سحيق من النسيان،  كلما وجدت نفسها على بعد خطوات من الوصول إلى نهاية هذا النفق المظلم وجدتْ أيدٍ غريبة تشدها إلى الأسفل، وتشل قدرتها على التحليق، وكلما ارتفعت إلى السماء تهاوت وارتطمت بقسوة الحقيقة.

ما زالت هذه الأعين اللامعة على الجدران تحدق بها من كل جانب وترسل أذرعاً طويلة ومتشابكة تحوط عنقها، تخنقها بلا رحمة، تعتصرها بتعذيب مطلق.

كم تمنت أن تعود لنومها السرمدي وغيبوبتها الطويلة لعلها تجد عنوانها المفقود وذاتها الضائعة.

خيم المساء باكراً كسائر ليالي الشتاء الطويلة، تسلل الملل ببطء ليغزو أفكار شهد ككل ليلة، ألقت نظرة أخيرة على لوحتها، تقف بثبات أمامها منذ عدة أيام.

أقنعت نفسها كعادتها بإكمالها في الصباح، فوضى المكان وتناثر الألوان يثير جنونها من جديد، قد يستغرق الأمر ساعات لإعادة تنظيم المكان.

استسلمت بيأس لتعاستها، واشتاقت لفراشها الوثير، قد يكون النوم هو الملجأ الوحيد الذي يهرب إليه الإنسان من أحزانه وآلامه، لكنه يُفاجأ بأنه يظل عالقاً لساعات داخل ممرات مظلمة.

يصطدم في نهايتها بمرايا عاكسة صامتة وقاتلة، تحكي له قصص الماضي والحاضر بشيء من التهويل، وقد تصور له شيئاً من المستقبل المجهول.

استطاعت شهد أن تميز جسده في الظلام الحالك، كان مغطى بالدماء، أصداء صرخاته المتواصلة أصم أذنيها، كان على بعد أمتار منها، لكنه كان يقبع في هوة نفق سحيق.

أدار وجهه اتجاهها بعينيين باردتين يشع بريقهما في الظلام، لا تدري كيف ومتى تقلصت المسافة بينهما، لكنها وجدت نفسها أمامه مباشرة، بل تكاد تلمس يديه.

كانت يداه باردتين كالثلج، همس باسمها مستغيثاً ومتألماً، أرادت أن تصرخ لكن أحبالها الصوتية ضربها الصقيع الذي يلف المكان.

اختنقت برائحة الدخان، صوت عجلات القطار على القضبان الحديدية يصم الآذان، وما زالت الدماء تتدفق من هذا الجسد الذي يستلقي أمامها، وجهه اكتسى بلون أحمر داكن يكاد يكون أكثر سواداً من ظلمة الليل الأدهم في عمق النفق.

وجدت شهد نفسها تهوي للأسفل، ولا حيلة لها سوى التشبث بهذا الجسد الخائر القوى، أراد محادثتها، تحركت شفتاه، ولكن كلماته غرقت في بحر الدماء التي تدفقت من فمه.

أرادت الفرار أو الاستيقاظ، تمنت لو أن أحداً يوقظها بكل قوته، ويعيدها لحياتها الرتيبة المملة، أيقنت أنها محاصرة وسط عتمة الظلام.

انتشلت جسدها بقوة، دفعت بصدرها ثقل الهواء الجاثم على قلبها، مدت يديها وتسارعت خطا قدميها، فتحت عينيها لتجد نفسها استيقظت أخيراً.

اقرأ أيضًا قصة " تاريخ الضحك ".. قصة قصيرة

كان ظلام الغرفة وبرودة المكان أكثر قسوة من ذلك الكابوس المزعج، تذمرت بشدة، ولكنها عادت تتشبث بجسدها النحيل لتحصل على بعض الدفء.

لماذا أنا؟ ولماذا ينادي باسمي؟ وماذا يريد مني؟

تساءلتْ شهد وهي مغمضة العينيين ومنهكة القوى، كان جسدها يرتعد كطير يشق طريقه وسط عاصفة رعدية.

خُيِّل لها لبرهة أنها أقدمت على أذية شخص ما سابقاً في حياتها أو ربما ترى نفسها قبل موتها، ولكن لن يكون لمعرفة ذلك فائدة تذكر؛ لأنها أدركت أنها عالقة إلى الأبد في بحر من الندم والألم.

في اليوم التالي بحثت شهد في أوراقها ودفاترها القديمة لعلها تجد اسماً أو صورة تنعش ذاكرتها أو تفسر لها حلمها المزعج، قصاصات هنا وهناك، لوحات، ومعارض فنية، كل ما وجدته كان يتعلق بالفن والرسم الذي طالما تمنت أن يكون الدواء لجروحها العميقة.

أطلت شهد برأسها من النافذة، ضوء الصباح الساطع بعث لديها أملاً يشوبه توجس وحيرة، أخيراً قررت أن تنضم لأمها التي كانت تجلس في الحديقة.

وجدت شهد أمها كعادتها تبتسم بوقار وترتدي شالاً صوفياً لتقاوم به نسيم الصباح البارد، جلست شهد لترتشف فنجاناً من القهوة الساخنة، تمنت لو كان بإمكانها أن تخبر أمها بمعاناتها، لكن شهد لم تجد الكلمات المناسبة لتعبر لها عن أسوأ كوابيسها.

في الليلة التالية قررت شهد عدم النوم، ولأول مرة كانت تحسد الذين يعانون من الأرق، استغلت كل دقيقة في ليلتها الطويلة لتكمل لوحتها، وعزمت على إنهائها مع طلوع الصباح.

انشغلت بمنظر الجبال والتلال الأخاذ، وتلك الشجيرات التي تحيط المكان من كل جانب، أخذت تمزج اللون البني بالأسود، واللون الأخضر بالأصفر، وقليلاً من اللون الأحمر الذي يضفي بوهجه عمقاً آخر لمنظر المكان.

تموجات اللون الأزرق أعادت لها هدوءها، ووجدت في لون السماء الشاحب أفقاً آخر لأفكارها، أغمضت شهد عينيها لبرهة وتخيلت أنها وسط الطبيعة الساحرة التي ترسمها، لكنها سرعان ما فتحت عينيها بقلق كمن يخشى الوقوع حتى في أحلام اليقظة.

ألقت نظرة فاحصة على كل أرجاء الغرفة خوفاً من أن يتسلل زائر الليل من كابوسها المخيف، ويغزو ليلها الطويل الساهر.

لمَّا اطمأنت لخلو المكان أطلقت زفرة طويلة، وضعت لوح مزج الألوان من يدها، وأسندت ظهرها إلى كرسيها الخشبي وهي لا تزال تتأمل لوحتها الفنية التي شارفت على الانتهاء.

ولم تمر سوى لحظات طويلة حتى استسلمت شهد لنومها العميق، وجدت شهد نفسها من جديد في النفق المظلم ذاته، الصمت يلف المكان، وفجأة ظهر ذالك الوحش الحديدي الذي كان يقترب شيئاً فشيئاً

كان صوت القطار يعلو أكثر فأكثر، تتسارع عجلاته وتلهث وهي متمسكة بالقضبان، لكن من هناك؟

إنه ذلك الجسد الذي يهوي في الظلام، أرادت تحذيره فصرخت شهد بأعلى صوتها، كان صوتها مسموعاً، ولكن مع الأسف كان مسموعاً لها وحدها فقط، استمر الجسد بالتهاوي إلى ما لا نهاية، ثم ارتطم بالقضبان الباردة.

تسمرت شهد في مكانها يائسة وهي تواجه مقدمة ذلك القطار القاتل، تملكها الغضب والقنوط، تمنت أن تستطيع دفعه بكلتا يديها حتى تلتقط ذلك الجسد، ولكن هيهات، فقد انسحق بشدة داخل فكه الآسر، تنافرت الدماء والأشلاء هنا وهناك، وخيم الحزن والأسى على ذلك النفق البائس.

صرخت شهد وهي تبحث في كل مكان: "نبيل ..أين أنت؟ لا تتركني وحيدة" كانت ضعيفة وحزينة كلما أرادت الإسراع زادت حركتها بطئاً وتثاقلاً، استيقظت شهد على ضوء الصباح يعم أرجاء غرفتها والدموع تملأ عينيها وهي تنادي نبيل: أين أنت؟

ظهرت لها حقيقة مشرقة جديدة متلألئة براقة، تجمدت في مكانها، لم تستوعب بعد حقيقة أنها كانت نائمة، ربما للحظات أو ساعات، ولكن تساءلت في ذات اللحظة من يكون نبيل؟ هل هو أخ، أم صديق، أم مجرد شبح آخر اعتادت أن يخيم على حياتها في صحوها ونومها.

اقرأ أيضًا قصة " أحببتها ولكن ".. قصة قصيرة

كانت غاضبة وحانقة على نفسها، ليس لأنها استسلمت للنوم، بل لأنها نسيت ذلك الاسم ولم تذكره من قبل، زال خوفها من المجهول وأصبح شغفاً لمعرفة المزيد وتعلقاً بمواجهة الوجه الآخر لصورتها المنعكسة في المرآة.

خرجت شهد مسرعة من غرفتها، تعثرت خطاها وهي تنزل على الدرج المؤدي للردهة، بحثت عن أمها والحنين يملأ وجدانها، أخيراً وجدت أمها تسقي مزروعاتها في الحديقة وتعتني بتربتها بهدوء وسلام.

قالت شهد فجأة ودون مقدمات: "ماذا حصل لنبيل يا أمي؟" رفعت الأم بصرها باتجاه ابنتها ثم أغمضت عينيها وتنهدت بعمق: " كنت أعرف أنك ستسألين هذا السؤال في يوم من الأيام" أجابتها أمها بصوت هادئ.

علمت شهد كما حكت لها أمها أن نبيل هو أخوها الذي كان يقود بهما العربة على الطريق وقت وقوع الحادث، نجا هو لكنه لم يستطع نسيان الشعور بالذنب والألم لما أصاب شقيقته بسببه.

وكأي شقيقين توأمين اعتادا أن يتشاركا كل معاني الحياة، قرر أن ينهي معاناته وألقى بنفسه أمام القطار على قضبان السكة الحديدية.

شعرت شهد بالأنانية لكونها ما تزال على قيد الحياة، ولكنها أدركت أن الأمر ليس بيدها، كانت تحتاج شقيقها أكثر من أي وقت مضى،  ظلت شهد تسأل نفسها: "لماذا رحلتَ وتركتني وحيدة؟ ألم تعلم أنني ما زلتُ بحاجة إليك؟"

لكنها عادت وتذكرت أنها هي من سبقته بالرحيل عندما كانت غائبة في نومها الطويل تبحث عن نفسها وذاتها المفقودة.

 اقرأ أيضًا

-الراعي والمستشار.. قصة قصيرة

-لا تمُت قبل أوانك.. قصة قصيرة

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يناير 4, 2023, 8:16 ص

أحسنتى روعة بجد

أضف ردا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

هل تحب القراءة؟ كن على اطلاع دائم بآخر الأخبار من خلال الانضمام مجاناً إلى نشرة جوَّك الإلكترونية

مقالات ذات صلة
نبذة عن الكاتب
مقالات الكاتب الأكثر شعبية