مثَّلت المدن العلمية في المغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط منارات للحضارة والمعرفة، لم يقتصر دورها على كونها مراكز سياسية أو عسكرية، بل تحولت إلى نقاط تواصل حضاري حيوي استقطبت العلماء والمفكرين من كل حدب وصوب. إن تاريخ المغرب الإسلامي غني بهذه الحواضر التي أثبتت أن التقدم العمراني والازدهار الفكري يسيران جنبًا إلى جنب.
في هذا المقال، نستعرض السياق التاريخي لنشأة هذه المدن، ونحلل رؤية ابن خلدون حول علاقة العمران بالعلم، ثم نغوص في دراسة حالتين لمدينتين محوريتين هما مدينة تيهرت ومدينة آشير، لنكشف عن العوامل التي جعلتهما تضيئان سماء الغرب الإسلامي.
السياق التاريخي: الفتح الإسلامي وولادة الدول المستقلة في المغرب
شكَّل الفتح الإسلامي لبلاد المغرب خلال القرنين الأول والثاني الهجريين (منتصف القرن السابع إلى أوائل القرن التاسع الميلادي) مرحلةً حاسمة في صياغة هوية المنطقة، فلم يقتصر أثره على الجوانب الدينية واللغوية فحسب، بل امتد ليشمل الاندماج في الحضارة الإسلامية الواسعة، والإسهام الفاعل في رُقيها. فقد مثَّل الفتح تحولًا حضاريًّا عميقًا، غرس قيمًا ثقافيةً جديدةً تفاعل معها السكان المحليون، ما أسهم في تكوين كيان مغربي متوازن، يجمع بين الأصالة والمعاصرة في إطار المنظومة الإسلامية.

برزت في المغرب الإسلامي مدنٌ عدَّة أدت دورًا محوريًّا في نشر الثقافة والعلوم خلال العصر الوسيط، فأصبحت نقاطَ تواصلٍ حضاريٍّ بين مختلف الأقاليم. وقد ارتبط تأسيس هذه المدن بالنسق التنظيمي للمجتمع الإسلامي؛ ما جعلها تظهر نموذجًا متكاملًا للتطور العمراني والفكري.
العمران والعلم: رؤية ابن خلدون
في هذا الصدد، يُبرز ابن خلدون العلاقةَ الجدلية بين العمران والتقدم العلمي، فيقول: «إن التطور العلمي والفكري مرتبط بتطور الحياة الاجتماعية؛ فالعلوم تكثر حيث يكثر العمران والحضارة».
تُعد الدولة الرستمية أول دولة مستقلة عن الخلافة العباسية في المغرب الإسلامي، ومثَّل ظهورها بداية انفصال المغرب الأوسط عن المشرق، تلاها قيام دول مستقلة أخرى مثل الدولة الإدريسية (172هـ/788م) في المغرب الأقصى، والدولة الأغلبية (184هـ/800م) في المغرب الأدنى. يعود تأسيس الدولة الرستمية إلى عبد الرحمن بن رستم الفارسي الذي عزَّز نفوذه عبر جهوده الحثيثة، ثم استقر بأتباعه في موقع إستراتيجي بجبل (جزول)، بعد اتفاق مع سكانه على شراء مساكنهم مقابل حقوق التجارة في الأسواق.

اتسم نظام حكمها في البداية بالبساطة، حيث حمل الحاكم لقب (الإمام)، وشهدت الفترة الأولى استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، خاصة في عهد الإمام أفلح، قبل أن تضعف بظهور أئمة غير أكفاء.
وتميزت الدولة بمساحتها الشاسعة وخصوبة أراضيها، ما أكسبها تنوعًا زراعيًا (كالحبوب والفواكه) وصناعيًا (مثل صناعة الحلي). لكنها انهارت عام 296هـ/ 909م على يد العبيديين (الفاطميين) بعد اغتيال آخر أئمتها اليقضان بن أبي اليقضان، وسقطت قبل زوال دولة الأغالبة في العام ذاته.
ظهرت الدولة الفاطمية أولًا في تونس، ومن هناك انتشرت دعوتهم نحو الغرب والشرق في شمال إفريقيا. وقام أحد دعاتهم، المُسمى عبد الله، بتدمير مدينة (تاهرت) التي كانت عاصمة لبني رستم، واستولى على الجزائر. ثم واصل الفاطميون تقدمهم غربًا حتى وصلوا إلى سواحل المحيط الأطلسي، فأصبحت الجزائر ولاية تابعة للفاطميين في المذهب والسياسة. وعندما سيطر الفاطميون على مصر، نقل الخليفة المعز لدين الله عاصمة ملكه من (إفريقية) إلى القاهرة عام 362هـ. وعيَّن المعز بلكين بن زيري الصنهاجي نائبًا عنه في الجزائر، وتولى حكم شمال إفريقيا، واتخذ مدينة (الهدية) مقرًا لحكمهK واستمر الحكم في أبنائه من بعده.
المدن العلمية أضاءت سماء المغرب الإسلامي
من أهمها:
مدينة تيهرت عاصمة الرستميين ومركز التجارة
حظيت مدينة تيهرت التي اختارها عبد الرحمن بن رستم عاصمة له بإشادة كثير من الرحالة والمؤرخين الذين وصفوها بدقة، فقد كانت في الماضي تتألف من مدينتين عظيمتين: إحداهما قديمة تقع على مرتفع جبلي خفيف وتحيط بها الأسوار، والأخرى حديثة البناء.

وتبعد تيهرت عن القيروان بمسافة تفصل بينهما منطقة الزاب وجبال الأوراس الشامخة، ما أكسبها موقعًا استراتيجيًا محميًا من هجمات الأسطول البيزنطي بفضل موقعها الداخلي، وكانت مدينة تيهرت محصنة بأسوار تضم عدة أبواب، منها: باب الصفاء، وباب المنازل، وباب الأندلس، وباب المطاحن، وغيرها من المداخل التي شكلت نقاط اتصال رئيسة للمدينة، حتى عرفت بأم العسكر.
تمتاز المدينة بموقع جغرافي فريد عند نقطة الالتقاء بين المنطقة التلية والصحراوية، ما جعلها معبرًا تجاريًا حيويًا يربط بين مختلف الجهات، بل وتصل تجارتها إلى ما وراء البحار عبر الطريق الرابط بين المشرق والمغرب والأندلس الإسلامية.
ويذكر الجغرافي البكري في وصفه الدقيق لبناء المدينة الحديثة: «كانوا يبنونها نهارًا، فإذا جنَّ الليل هدموا ما بنوه»، في إشارة إلى الطريقة المتميزة التي اتبعها بناة المدينة في تشييدها.
هذا الموقع الاستراتيجي والبناء المتميز جعلا من تيهرت مركزًا حضاريًا وتجاريًا مهمًا في المنطقة، وحاضنة لكثير من الحضارات التي تعاقبت على شمال إفريقيا عبر العصور.
مدينة آشير الحصن العسكري والعاصمة الزيرية الأولى
تأسست مدينة أشير (أشير زيري) في سنة 324 هـ/ 935 م على يد زيري بن مناد الصنهاجي، مؤسس السلالة الزيرية، بأمر من الخليفة الفاطمي القائم بأمر الله. وقد اكتمل بناؤها الأساسي بحلول سنة 330 هـ/ 941 م، لتصبح حصنًا عسكريًّا ومنطلقًا للدولة الزيرية في المغرب الأوسط (شمال الجزائر حاليًا).

تقع مدينة أشير (أو أشير زيري - بفتح الهمزة وكسر الشين وياء ساكنة) في جبال البربر بالمغرب الأوسط (شمال الجزائر حاليًا)، ضمن نطاق إفريقيا الغربية مقابل ساحل بجاية، وتُعرف عند الأمازيغ باسم (يأشير) (بالمزابية) بمعنى (المخالب)، وتُوصف بـ (أشير الأطلس) أو (أشير الخشنة) لوقوعها في منطقة جبلية وعرة بالقرب من جبل الكاف الأخضر (ولاية المدية)، وقد أسسها زيري بن مناد الصنهاجي (مؤسس السلالة الزيرية) في القرن العاشر الميلادي، ما جعلها تُعرف أحيانًا باسم (أشير زيري) نسبة إليه، حيث كانت العاصمة الأولى للدولة الزيرية قبل انتقالهم لاحقًا إلى قلعة بني حماد وبجاية، وقد ذكرها الجغرافيون مثل البكري وابن حوقل بوصفها مدينة حصينة ذات موقع إستراتيجي مهم في التاريخ الإسلامي للمغرب الأوسط.
عوامل ازدهار المدن العلمية في المغرب الإسلامي
لم يكن ازدهار هذه المدن وليد صدفة، بل نتاج تضافر عدة عوامل رئيسية:
-
الموقع الإستراتيجي: وقوع معظم هذه المدن على مفترق طرق التجارة الصحراوية والمتوسطية جعلها مراكز للتبادل الاقتصادي والثقافي.
-
رعاية الحكام: اهتم الأمراء والأئمة، مثل عبد الرحمن بن رستم، ببناء المكتبات واستقطاب العلماء ورعايتهم، مما خلق بيئة جاذبة للعلم والمعرفة.
-
الهجرة العلمية: شكلت هذه المدن ملاذًا آمنًا للعلماء والفقهاء الفارين من الاضطرابات السياسية في المشرق والأندلس، ما أثرى الحياة الفكرية فيها.
في وسط البناء الثقافي والفكري المتصاعد، برزت مدن المغرب بوصفها مراكز حضارية مشعة، حيث تجلت عظمتها بما ذكره ابن خلدون:
«إن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت، مثل البصرة، فلم يزل العلم قائمًا بخراسان وما وراء النهر، ثم انتقل إلى العراق، فكان بالبصرة والكوفة، لكن الله قد أدال منها بأمصار أعظم من ذلك، وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان وما وراء النهر من المشرق، ثم إلى القاهرة، وما إليها من المغرب، فلم تزل موفورة وعمرانها متصلًا وسند التعليم بها قائمًا».
في هذا السياق، أدت حواضر المغرب المتعددة دورًا محوريًا كوسط ثقافي وحضاري، فتمكَّنت مدن المنطقة من أداء أدوار فاعلة وكبيرة، مُسهمةً في بناء المشهد الحضاري الإسلامي. ولم يتوقف دورها عند ذلك، بل تحولت إلى مراكز استقطاب للعلماء والمشايخ من مختلف مناطق المغرب وخارجها، خاصة في أيام الرخاء والازدهار.
احسنتِ
شكرا جزيلاً
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.