حينما نُبحر في ذاكرة الزمن، ونعود إلى العصر العباسي، نُدرك أن المجالس الأدبية لم تكن مجرد حلقات للنقاش أو الترفيه، بل كانت منصات حوارية نابضة بالحياة، تُشبه في جوهرها ما نعرفه اليوم من شبكات التواصل الاجتماعي، ولعلَّ أقربها إلى روح تلك المجالس هو «تويتر»؛ مساحة حرة للكلمة، سريعة الانتشار، لا تعرف القيود.
في تلك المجالس، كان الشعراء يتبارزون بالشعر كما يتبارز المغرِّدون اليوم بالتغريدات، وكانت النكتة، والمفارقة، واللمحة الذكية، تُحدث ضجة لا تقل عن «الترند».
لم يكن الحضور مجرد مستمعين في تلك المجالس، بل كانوا شهودًا على لحظاتٍ تصنع الأدب والتاريخ.
كانت تُقام في قصور الخلفاء، أو في بيوت كبار الأدباء والوزراء، مثل بيت البرامكة أو مجلس سهل بن هارون، أو في المساجد الكبرى التي تحوّلت إلى مراكز فكرية، وكانت تُعقد ليلًا غالبًا، وسط أجواء من السمر والإنصات، حيث تتعانق رائحة البخور مع نكهة القهوة أو النبيذ، حسب المجلس وطبيعته.
مجالس الشعر والمفاكهة
يتبارز فيها الشعراء كما في مبارزات فكرية حيَّة، يقول أحدهم بيتًا، فيرد عليه آخر بمثله وزنًا وقافيةً، لكن بفكرة أذكى أو رد لاذع، وكان يُطلب من الشاعر أن يُنشد من ارتجاله، أي دون إعداد، لقياس سرعة بديهته.
المجالس الفلسفية والعقلية
مثل مجالس الكندي والفارابي، فتُناقش قضايا الوجود، والمنطق، والنفس، والفكر اليوناني، وتُترجم النصوص وتُفكّك الأفكار، في حلقات جدل ونقاش حاد، تليق بعصر الترجمة والانفتاح.
المجالس الساخرة
وهي أشبه بـ«ستاند أب كوميدي»، حيث يلتقي الشعراء والظرفاء ليتنافسوا في إلقاء النكت والطرائف والألغاز، وكان بشار بن برد والجاحظ نجوم هذا النوع، لا يُنافسون في فصاحتهم ولا في سخريتهم.
المجالس العلمية والدينية
تضم فقهاء، ومفسرين، ونحاة، يشرحون ويُناقشون ويخوضون في الفروق بين المسائل اللغوية أو الفقهية، وكان الكسائي وسيبويه من رموز هذه الحلقات.
وكان كل مجلس له مراسمه وهيبته، فيبدأ بترحيب صاحب المجلس، ويُفرَش المكان بأقمشة فاخرة، وتوضع الدواة والرقوق جانبًا لتدوين ما يُقال، ويجلس الشعراء في جهة، والعلماء في جهة، وتُعطى الكلمة حسب ترتيب المكانة أو بدعوة من المضيف.
تُعرض الجوائز أحيانًا على أفضل قصيدة أو أطرف نكتة، مثلما تُعرض اليوم الجوائز على أفضل تغريدة أو منشور فيسبوك.
كانت الجلسات تجمع بين الجاحظ، وابن المعتز، والمتنبي، وبشار بن برد، في حضور الخلفاء أو الأمراء أو المثقفين، وكان لكل شاعر «حساب نشط» يتابعه المئات، ويتناقل الناس أخباره كما نتناقل الآن تغريدة لافتة.
وكانت السمعة الأدبية تُبنى بالكلمة، وتُهدم بالكلمة، في مشهد لا يختلف كثيرًا عن «اللايك» و«الريتويت» و«الهجوم الإلكتروني» في أيامنا هذه، الفرق الوحيد أن المنصة كانت مجلسًا مفروشًا بالسجاد، تتناثر فيه المخطوطات، وتعبق أجواؤه بالبخور، لا شاشات مضيئة ولا تطبيقات، ولكن الحوارات كانت تشتعل، والنقاشات تتسع، والتأثير يزداد.
أشهر المجالس
مجلس الخليفة هارون الرشيد: الذي جمع فيه الأصمعي، وأبا نواس، وزرياب، وكان يُفضّل الأدب الحي على الرسميات.
مجلس المأمون: وكان أقرب إلى ندوة علمية وفكرية، يختلط فيها الفقهاء بالمترجمين والفلاسفة.
مجلس الجاحظ: مجلس خاص مملوء بالطرافة والذكاء، لا يُملّ منه.
وهكذا، كانت المجالس الأدبية في العصر العباسي أكثر من مجرد لقاءات كلامية؛ كانت مسارح تُعرض عليها أفكار الأمة، ومنابر تُصاغ فيها ملامح الهوية الثقافية.
فيها تنافس الشعراء كما يتنافس اليوم صنَّاع المحتوى، وسُجِّلت المواقف كما تُسجَّل الآن بالتغريدات والمنشورات، ولكن بروح أعمق، وذوق أرقى، ولغة تنبض بالحياة.
وعلى الرغم من مرور القرون، تبقى تلك المجالس شاهدًا على أن الشغف بالكلمة لا يشيخ، وأن الحوار والتعبير الحر هما نبض الحضارة في كل زمان.
فهل نُعيد اليوم إحياء روح المجالس في فضاءاتنا الرقمية، ونمنح الكلمة مكانتها من جديد؟
قد لا نحتاج إلا لمجلس.. ولو افتراضي، يليق بعصرٍ ورث عبقرية الكلمة من زمن العباسيين.
مقال شيق أحسنت
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.