الكلمات هي خيوط الشعراء السريَّة لنسْج صورة العالم والوجود. فعَبر كلمات الشعراءِ تظهر الحقائق، الأوهام، الأخيلة، الأحاسيس. إنَّها المادة الحيَّة التي يشعرون بها ويتنفسون أسرار الحياة بها، فلا تنتظر الصيغ الشعرية لدى فكرة (الحياد المُعجمي)، ولكنها تتخلق من جديدٍ، تنتشي، تتقافز، تزهو، تتلون بشكل غرائبي في كل مرةٍ يصوغ الشعراءُ معاني الأشياء والكائنات.
عالم من اللغة
للوهلةٍ الأولى في عالم الشعراء، تمثل اللغةُ «لحمَ الحياةِ» flesh of life. فالأحاسيس تأتيهم لغةً، العشق يغمرهم لغةً، الحقائق تتجلى أمامهم لغةً، الواقع منحوت من جسم اللغة. إذن العالم يتكون من كلماتٍ مبدعةٍ هي القصائد قلَّت أو كثُرت، وعبر صورها الشعرية، تمرُق الرغبات لغويًا بالمثل.
دلالة اللحم -فيما يرى الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلوبونتي- هي استعارة وجود مضمَّخ بمعانٍ حيةٍ، منتشية، مترعة بالعطايا والملذات. وأيضًا ثمة معانٍ مشبعة بالآلام والشرور والخيبات والخطايا. ولا سبيل إلى صياغة تلك المستويات الإنسانية بأشكال رمزية دون الكلمات بوصفها مادة حيَّة للإبداع الشعري، كأنَّ الشعراء يعيدون الإنسانية إلى أزمنة اندماجها في الكون والطبيعة، تلك القوة الأوليَّة النامية التي كانت منتشرة في كافة مظاهر الحياة.
لعلَّها المسحة الأسطورية للوجود، إذْ تلف كائناته أطيافُ الغموض والظلال، حيث كانت عناصره تنسجم مع بعضها بعضًا، والأشياء تتبادل المواقع والأدوار، والحيوانات عبارة عن أشجارٍ، والأشجار تمثل جبالًا شاهقة، والصخور تذهب وتجيء في إهاب نغم كوني عارم، على حد تعبير فيثاغورث العالم (عدد ونغم)، هذه المقولة الرياضية/ الشعرية التي ولدت من روح الأسطورة والمعرفة الكونية.
هكذا تعيش اللغة وتمرح وترتع بمزيد من التعبيرات الشعرية، وقد تمرض وتخبو وتتحول وترسم حالًا مختلفًا من المعاني. عندما يدرك الشعراء جوهر العالم، يعطونه نفَسًا مجازيًا من خيالهم النوعي، يتحدثون إليه ويهمسُ إليهم، يحاورونه بالأصالةِ عن ذاته ويُسِرُّ إليهم بالألغاز، يستدرجونه إلى حيث يبدعون، ولكنه يأخذهم نحو المفاجأة والاندهاشِ، يهبونه صيغًا هي الصيغ النابضة بأعماقه الحسية/ الشعرية في الوقت الذي يُخرجُ من يراعهم عالمًا مذهلًا.
لم يكن الشعر في يومٍ من الأيام صيغًا مجردةً، ولكنه صيغ تتجاوز فكرة التجريد، فالشعر هو اللغة الحسية/ اللحمية بكل ما تؤكده من كثافةٍ وطزاجةٍ وحضورٍ، ولو كان هناك كائن بإمكانه خلق الكلمات في شكل كائنات من لحم ودم، فهو الشاعر. عملية الخلق مرتبطة بالإله في تراث الأديان، ولكنها لصيقة الصلة بالإبداع الشعري الذي يثري وجودنا الإنساني، إذا وصف الشاعر محبوبته، فهو وصف حي يكاد يتحرك لا أقل، ويدفعها لأنْ تمشي في الطرقات وتتضوع عبيرًا وعطرًا، وإذا عبَّر شاعر آخر عن مشهدٍ، فإنه يبث فيه روح الحياة، حتى يكاد يشعر بها كل إنسان! الشعر يخلق ما يقول، هذه السمة التي تجعله متميزًا عن باقي فنون القول.
طهي الشعراء
تاريخيًا... «لحم الشعراء» تعبير لشارل بودلير في يومياته على النحو التالي: «لو طلب شاعرٌ من الدَّولة الحقَّ في أنْ يضع بعض البرجوازيِّين في إسطبلهِ، لأثار الاستِغراب، لكن لو طلب برجوازيٌّ قليلًا من لحم الشُّعَرَاءِ «مَشْوِيًا»، لَبَدا ذلك أمرًا طبيعيًّا جِدًا!» (شارل بودلير، اليوميات، ترجمة آدم فتحي، منشورات الجمل، كولونيا- ألمانيا، الطبعة الأولى 1999، ص ص 75-76). اليوميات هي صفحات الحياة الهادرة بالتفاصيل إلى آفاق بعيدةٍ. لا يكتبها شاعرٌ اعتباطًا ولا يترك فرصة السرد المعبر عن أصالته وقريحته العميقة.
مهمٌ أنْ تأتي مقولة لحم الشعراء -في هذا السياق- بكل غبارها وتعطنها. فاللحم موطئ الفيروسات والحشرات ومرتع الطفيليات الاجتماعية من كل حدبٍ وصوبٍ؛ لأنه يعكس نظام الغرائز باختلاف منطلقاتها وأغراضها، وهو أيضًا دليل حي على الاندماج في متن العالم، نحن نندمج بلحمنا في إيقاع المعطى الحسي، فالحس هو ما يجعلنا نشعر بنبض الأشياء وصدى الكائنات.
لقد استعمل شارل بودلير تعبير( لحم الشعراء) بطريقة ماكرة كمقابل لبراح الشعر تجاه المجتمعات الراهنة من ناحيةٍ، وبمصاحبة قدراته على توجيه لطمات ناعمة لثقافة البيع والشراء من ناحيةٍ أخرى، لحم الشعراء أُدرج على طاولة الاقتصاد كبضاعة متاحة لأصحاب السلطة والنفوذ، فاللحم يعبر عن (اقتصاد سياسي) عاصف قد تتبدد خلاله لغة الشعراء من الأساس، والشعراء أمام البرجوازيين يفضحون نهم الرأسمال الذي يلف المجتمعات بين راحتيه، ولذلك ليس أقل من أنْ ينادي أحد الشعراء لدولته بوضع البرجوازيين في إسطبلات... وهنا سيثير المطلب استغرابًا ولا يلقى استجابةً!
بالمقابل: لو طلب برجوازي لحمًا مشويًا من جسد الشعراء لبدا ذلك طبيعيًا! ولكن المفارقة المغفُول عنها: أنَّه إذا كان لحم الشعراء مُستباحًا بوصفه مادةً بشريةً، فالمجتمعات لا تدرك أنَّ لحم الشعراء «سامٌ وقاتل» من جانب كونه مُعجزًا وخالقًا، لم يتناوله أحدٌ أو نهشه إلاَّ ومات ميتة الجاهلية؛ وذلك لكونه (أي لحم الشعراء) لغةً تند عن الأشياء بمعناها المادي، وهو أيضًا متماهٍ مع العالم دون مبارحةٍ، فحينما سيأكل البرجوازي شيئًا من لحم الشعراء، فإنَّه سيلقى موتًا يفضحه على الملأ كما نقل بودلير في الفقرة الواردة بالأعلى.
غدا وجود البرجوازي نفسه لغةً مكشوفةً أمام الذباب من كل مكانٍ، سلعة كاسدة أمام المارَّة في ردهات التاريخ. فالبرجوازي لا يفهم سوى ألعاب الاقتصاد والاستغلال، في حين يحول الشعراء الحيل والألعاب إلى حقائق لغوية فوق مستوى الشبهات. يعرض الشعراء كل صاحب نزعة تجارية صرف إلى مادة للسخرية والتهكم في عصر يشتري ويبتاع كل شيء. إن اللغة -بقول مارتن هيدجر- هي أخطر النعم، لكونها تعرضنا للانكشاف والتعري، وهذا ما يحققه الشعر تجاه غرائز الأوغاد والحمقى. إن شعرًا أصيلًا لا يخلو من أصداء سياسية بطريقةٍ أو أخرى.
عليكُم معشر الشعراء أن تصنعوا العالم من لحوم قصائدكم، ولا تأبهوا بمن ينادي عليكم في دامس الظلام. هكذا تبدو صور الأشياء والأزمنة والفضاءات لحمًا للشعراء كما تدلل تجربة المبدعين، إذ يشعرون بتحولاتها البعيدة. إن كيان الشعراء هو عوالم اللغة المدهشة، يتجرعون أنفاسها، يصوغون صورها وينزفون دماءها الساخنة على الرغْم مرور القصائد والعبارات بحقب كثيرة. ولئن كان ثمة ثوب مخِيط بالإحساس المرهف والقوي في الآن نفسه، فهو الكلمات الشاعرة، لا ينفصل الشاعر للحظةٍ عن فعلها الحي.
هبة الشعر
على هذا المنوال يهب كلُّ شاعر حقيقي حبًا للإنسانية من لحمه الخاص، ينزع الكراهية من لحمه الخاص، يُجسد الأفكار من لحمه الخاص، تبدو الأشياء منتميةً إليه لا العكس، فالكائنات تتصل بأسباب وجوده العميق، وأنفاسه يسكبها حيث الأخيلة والمجازات التي تصل إلينا بكل زخمٍ ممكن.
ولئن دلَّ ذلك على شيء، فإنما يدلُّ على أنَّ اللغة تتماهى مع العالم والطبيعة والحياة والموت. ذلك العشق الذي يجعلنا نحن البشر معجمًا لغويًا للكون، فنحن نتاج الطبيعة، ونفهم ذواتنا بوصفها كائنات في عنفوانها الحيوي، إذ تنسجم عناصر الطبيعة في الأعماق، وتبدو الكلمات زهورًا والمعاني أوراقًا وروائح فوَّاحة بكل ما هو جميل واستثنائي. هذا الطابع الأسطوري الذي لم يذهب عن عوالم الإنسان منذ القدم.
لا تُشْبه لغة الشعر أيَّةَ لغةٍ سواها، ولن تكون إلاَّ نفسها، وليس ذلك التطابق من باب التقنيات الفنية والأوزان والأشكال الشعرية، بل لكونه عملًا وجوديًا على الأصالة، فعبارات الشعر هي آثار الإنسانية وأخيلتها الأولى وذاكرتها وإحساسها الخام، وهي أبرز العناصر الممتدة عبر الزمن، فما زال الشاعر مع تطور الحياة محتفظًا بأحلامه الإنسانية الخاصة منذ آلاف السنوات.
إنَّ دلالة الشعر كامنةٌ (فيه) لا إزاءه، ولا تقع خارجه بحالٍ من الأحوال. فالشعرُ يُقال لا ليوصِّف الأشياء، ولا ليُعبر عنها تعبيرًا خارجيًا، بل ليخلِّق، وليُمثل جوانب العالم. وتلك هي البصمة الفلسفية المُبكرة في عُرف الشعراء. كلُّ شاعرٍ حقيقي يدرك جيدًا كيف (يخبز) تراب الحياة وأسرارها القُصوى؟ القصيدة دفقات وراء دفقات، حيث تتجلى عبرها أحاسيس الشاعر وقدراته (البدائية جدًا) على الخلق.
وكلمة (البدائية الواردة هنا) تقف بمعناها الحفري من وراء تراث الإنسانية البعيد، فالمشاعر سحيقة جدًا والأسرار الوجودية غائرة الجذور إلى أقصى مدى، لقد ورثناها كما هي، وسنوصلها إلى آخرين عبر وجودنا مثلما كانت، تظهر المشاعر والأحاسيس في الجسد بوصفها (وثيقة أنطولوجية) كأنَّها نقوش، حيث الحب والعواطف والكراهية والغرائز والرغبات والعلاقات والأهواء، وتلك الأشياء هي الموارد الطبيعية الأساسية لدينا جميعًا نحن بني الإنسان، أي مواردنا الخام التي نصطنع منها عالمًا معقدًا ورمزيًا، وبها نتواصل ونصنع كلَّ ما نملك أمام الآخرين، يصنع الشاعر من اللغة (كونًا له ولها) في الوقت عينه، فاللغة جسده الرمزي بوصفه جسدًا فاعلًا في الحياة.
لا يملك الشاعرُ غير أنطولوجيا الإبداع التي هي اللغة، إنه يسكن الوجود مؤكِّدًا على معانيه وتأويلاته وفقًا لرأي مارتن هيدجر. عندئذ لا تُراهن على مَنْ لا يملك شيئًا سوى الكلمات، فقد امتلك الخلود، أخذ مواقفه تعبيرًا عن الزمن. حينما يعبر الشاعر المُبدع، فهو يحقق غاياته لكل الناس، يذهب بعيدًا مخترقًا الحواجز، وحينما يُصور الأشياء، فهو ينحت أفكاره، وحينما يرى الكائنات، فهو يُمثل رؤيته بجسد الكلمات الذي هو متن الابداع.
وما مِنْ أحد يستطيع أنْ يأكله كما يريد البرجوازي أنْ يفعل؛ لأنَّ لحم الشعراء لحم نيئ على الدوام، يصعب طهيه نظرًا لأصالته العصيَّة على الإهدار، يستمد حقائقه من أصالة الطبيعة، فكما يستحيل طهي الطبيعة كلها، فكذلك لا أمل هناك في طبخ لحم الشعراء، لقد خابَ ظن منْ يتطلع إلى مضغه في نظام اجتماعي أو سياسي أيًّا كان.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.