إن الحديث يرسم ملامح شخصية صاحبة في بعض الأحيان، لا سيما إن كان اللسان صادقًا يفيض بما يدخر.
أستحضر مشهدًا من طفولتي، تحديدًا في حقلنا في موسم الربيع، إذ تكتسي الأرض بردائها الأخضر وأعشابها اللينة، هناك جلست متظللًا بظل شجرة من شجراتها ممسكًا بكتابي، وقد كان يحلو لي أن أذاكر دروسي في هذا الجو الهادئ المملوء بالحياة والباعث للآمال والمحفز على الإلهام.
كنت أحب أن أقرأ الدرس بصوت مرتفع بعض الشيء، كاتبًا ما أقوله بقلمي، كأنني المعلم والطالب في آنٍ معًا، أتلذذ بشرح المعلومة لنفسي ما دمت أفهمها جيدًا.
وفيما أنا منهمكٌ تراءت لعيني قدمان حافيتان، فتوقفت عن الدرس، رفعت رأسي عن الكتاب، وتطلعت نحو الأعلى، فوجدت رجلًا يلف على رأسه عمامة بيضاء بالية وثيابه مرقّعة، بدا كأنه يبلغ من العمر تسعين عامًا، لكنني فيما بعد علمت أنه لم يتجاوز الثالثة والستين من عمره، والبقية ما هي إلا مخلفات زمنه العسير.
قال لي بصوت حانٍ:
- هل تأذن لي بأن أجلس معك بعض الوقت؟
- أجبته مرحبًا: طبعًا يا أبي، تفضل، شرف لي أن أتشارك معك الحديث، فأنت في مكانة والدي رحمه الله.
ابتسم قليلا ثم تنهد قائلًا):
- (حقًا، اللي خلف ما ماتش).
على الفور سألته:
- هل كنت تعرف والدي؟
- أجابني: أنا أعرف والدك، وأعرفك وأعرف إخوتك، لكنك لا تعرفني.
كان ينتظر مني الرد؛ ليحكم على منهج حديثي، فأجبته بتلقائية ودون تكلف قائلًا:
- من سوء حظي أنني لم أعرفك.
على الفور سألني:
- هل تجاملني؟
- أجبته: آداب الحديث تقتضي ذلك.
جلس، وبدأ يسرد لي جزءًا كبيرًا من حياته، وكيف تدهورت أحواله من سيئ إلى أسوأ حتى وصلت به الحال إلى ما عليه على الرغم من الفرص التي سنحت له.
وأخيرًا سألني:
- أتعرف ما الذي كان ينقصني لكي تنجح حياتي؟
- قلت له: حقًا لا أعلم، لكنني شعرت أن الشخص الذي حدثتني عنه غير الشخص الذي أراه أمامي!
- فقال لي: نعم، إنها نصف الاجابة، فمن صغري وكلماتي كانت كالطعنات تمزق ولا تعرف كيف تضمد أو تداوي، شعرت بالكره ممن حولي، فامتلأ قلبي بالحقد والكره والفجاجة، بالسوء ذاع صيتي، ولم يقبلني أصحاب الأعمال، فلجأت إلى السرقة والتحايل، ما أفضى بي إلى السجن، خسرت زوجتي وأبنائي وأصدقائي، وللأسف استفقت لما فات الأوان.
إن حديثه لا يزال يتردد في مسمعي من حين إلى آخر على الرغم من مرور ثمانية وثلاثين عامًا تقريبًا، أقارن بين ماضي هذا الرجل وحاضره، فأدرك القيمة الذهبية للحكمة التي تقول: «إن الكلمة الطيبة جواز عبور إلى القلب».
أفهم جيدًا من يقول: إننا في عالم لا يقدر الذوق، ولم يعد لأدب الحديث معنى، لكن إن لم يتغير العالم بنا فكيف سيتغير، ردوا إلى الحياة بهاءها، وللملتقي نعيمه متذكرين الكلمات المقدسة:
«الكلمة الطيبة كشجرة طيبة»، و«من يرمي خبزه على وجه المياه يجده ولو بعد حين».
لقد استمر حديثي مع هذا الرجل قرابة الساعة، وفي النهاية قال لي:
- إن الذي كان ينقصني لسان يعرف كيف يتكلم، ومتى يتكلم، وبما يتكلم.
بعد تلك العبارة قام وودعني ومضى سابحًا بين الحقول.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.