في قلب التجربة التعليمية تبرز الكتابة كونها أحد أعمق الأنواع التي يعبر بها الإنسان عن ذاته، لكونها لا تقتصر على أداء لغوي ميكانيكي، وإنما تمثل مجالًا حيويًا لتجليات الفكر والعاطفة وكذلك الخيال؛ ولهذا تغدو جودة التعبير الكتابي لدى تلاميذ المرحلة الابتدائية أداة قرائية دقيقة لما يختلجهم من أفكار ومشاعر، ومرآة تظهر الإمكانات التعبيرية التي يمكن أن تؤسس هوية لغوية وأدبية ناضجة في المستقبل إن شاء الله.
جودة التعبير الكتابي دليل على الإمكانات اللغوية والأدبية والنفسية
إذا كانت المدرسة تُعنى بتلقين القواعد والمهارات، فإن مسؤوليتها لا تكتمل ما لم تحتضن تلك الومضات الإبداعية، وتعترف بأن النص البسيط الذي يكتبه تلميذ في العاشرة من عمره قد يكون اللبنة الأولى في مشروع كاتب فذ، ولأنه في التمثلات التقليدية، يُختزل التعبير الكتابي في كونه تمرينًا لغويًا يروم تقويم المهارات القاعدية فقط كالإملاء والتراكيب والمعجم، هذا لأن الرؤية في كثير من الأحيان تقتصر على ملاحظة طاقة التلميذ التعبيرية في بعدها الأدائي فقط، وتُهمل أن تلتقط أبعادها الوجدانية والتخيلية.
فالطفل وهو يكتب يُمارس فعلًا وجوديًا مزدوجًا، فيفهم العالم، ويُعيد بناءه بلغته الخاصة، كاشفة كتاباته عن طرائق تفكيره، وبنيته النفسية، وميله إلى الحكي أو الوصف، ففي نبرته اللغوية وطبيعة اختياراته الدلالية ترجمة لشخصيته وهويته الناشئة، إذن لهذا تصبح جودة التعبير مؤشرًا على براعة التلميذ لغويًا وأدبيًا، وكذلك مدى استقراره نفسيًا.
علامات مبكرة للإبداع الأدبي في كتابات الصغار
نحن لا نقول إن الطفل كاتب صغير بالمعنى التقني والحرفي للكلمة، لكنه مشروعُ كاتبٍ ممتلئ بالحس الإبداعي، وقد تظهر علامات التوجه الأدبي باكرًا حين يستعمل التلميذ المجاز دون أن يُدركه نظريًا، أو حين يُركّب جملةً فيها نغمة شعرية أو بعد درامي، أو حين يُفضل وصف المشاعر على الأحداث، أو حين تُغلب على نصوصه نظرة تأملية وخيالية.
وكذا تتجلى البذرة الأدبية أيضًا في مدى قدرته على بناء وحدة موضوعية في نصه، وإعادة خلق واقع مختلف بلغته الشخصية ونظرته الخاصة، فبين السطور قد يظهر ميل الطفل نحو التأمل والحس الجمالي والعوالم الحُلُمية، وكلها تعد مداخل أساسية نحو الأدب.
البيئة الصفّية ودورها الحاسم في تطوير الحس الأدبي
إذن لا مناص من عدّ البيئة الصفية أحد أهم العوامل المؤثرة في تطور الحس الأدبي لدى المتعلم، فحين تكون الكتابة في نماذج جاهزة مكرورة، وتُقيَّم فقط بالكم اللغوي والشكلي، فإنها تفقد روحها وتتحول إلى فعل آلي ممل، أما حين يُمنح التلميذ هامشًا للحرية، ويُشجع على الكتابة الذاتية، ويُحتفى بما يكتب دون الاستخفاف بضعف الأسلوب أو بساطة اللغة، فإنه يكتشف متعة التعبير، ويستهل بناء علاقة داخلية وطيدة بالكتابة.
وفي هذا السياق يكون للمدرّس دور محوري في هذه العملية، بكونه أول قارئ لنص التلميذ، وفي حالة أحسنَ الإنصاتَ، وتجنّب التقييم الأحادي، فإنه قد يوقظ في الطفل شغفًا يُرافقه سنين، ما قد يجعل طريقه شبه معبد نحو الأفضل.
ترابط النمو المعرفي والعاطفي بالجودة الأدبية
أما من منظور علم النفس التربوي، فإن كل النظريات تصب في نهر واحد، أو فكرة واحدة فحواها أن التفوق والتقدم الإبداعي لدى الطفل يرتبط بمراحل النمو المعرفي والعاطفي، ما يعني أن الجودة الأدبية ليست صدفة، لكنها نتيجة تفاعل معقد بين البيئة والحس الفردي، وأيضًا الدعم التربوي والنفسي.
الكتابة في الابتدائي تنبّؤ بمستوى الوعي اللغوي والتخييلي للطفل
في الأخير ما لنا إلا أن نقول إن جودة التعبير الكتابي في المرحلة الابتدائية ليست مجرد عرض لغوي، بل هي تنبؤ دقيق بمستوى الوعي اللغوي والتخييلي لدى الطفل، وقدرته على أن يرى العالم بعين داخلية تُعيد تشكيله بالكلمات، وكل تلميذ يكتب دون أن يُملى عليه ما يكتب، هو تلميذ يحتك بالحياة، ويُعيد اكتشاف نفسه في مرايا اللغة.
الاهتمام بالكتابة في هذه المرحلة استثمار لإنتاج أدباء
ونستنتج أن الاهتمام بجودة الكتابة في هذه المرحلة لا يُعد ترفًا تربويًا، أو أمرًا نمر به مرور الكرام، وإنما هو استثمار في بناء ذواتٍ قادرة على التعبير والتأمل، وقد يكون فيه اكتشاف مواهب أدبية كامنة تنتظر فقط من يؤمن بها، فالكلمة الأولى التي تُكتب بحُب وتجد أذنًا صاغية تستمع إليها بشغف تكون بذرة كل الأجناس الأدبية مستقبلًا.
إن الاهتمام بالكتابة في المرحلة الابتدائية يمثل استثمارًا حيويًا في بناء جيل مبدع وقادر على التعبير عن أفكاره ومشاعره بوضوح وثقة، فلنرعى هذه المهارة الأساسية لتزدهر مواهب أدبية كامنة وتثري مستقبلنا اللغوي والثقافي.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.