«إن ما تكتبه قد يتساقط أمامك كأوراق الخريف تحت أشجار عارية الأغصان..» هل هو ذنب ما لا يبرحك حتى تراه؟ أهي لعنة المعرفة التالية معنا نحن البشر عندما أكلنا من الشجرة المحرمة منذ سحيق الزمان؟! أم هو نسغ لحياة عشناها عبر تجارب الآخرين وقد لامسنا الحقائق؟! بأيَّة طريقة تكون الكتابة وسيلة لعالم لم يأتِ بعد؟!
أحيانًا يكون الواقع دعوة طازجة للجنون، لا مساحة نعيش داخلها وتعيش داخلنا. الحياة شذرات متناثرة من التجارب والخبرات، بقدر ما تثري وجودنا الإنساني. ليست كل تفاصيل الحياة هي ما نعيش تحديدًا، نحن نعيش المواقف التي نمتلئ بها، أما الفائت والعابر والراسب أكثر بكثير من ذلك. العيش هو العمق الذي نكونه عبر الزمن، لا مجرد الوُجود. والزمن يكشف لنا في كل مرة: كم فاتنا من الحياة ما لم ندركه أول وهلة. قل لشخص: كم عشتَ من أوقات؟ سيقول لك: سنوات وسنوات، ولكنه راغب في مزيد! قل لآخر: كم جرَّبت من مواقف؟ سيؤكد: جرَّبت مرارًا وتكرارًا، لكنه يريد تجريبًا لا ينقطع! بل قد يتمنى الاثنان أن يعيشا في عصور أخرى.
مهولة هي الأشياء المفقودة من وجودنا على مستوى الواقع والمعرفة والفكر. الحياة مثل المياه الجارية، لا ندركها من السطح، إذ تحمل أشياء كثيرة وكثيرة، وتنقل لمن يرى صورة بأن الأمواج هي جميع ما نشاهد. غير أنها مياه هادرة دوَّارة حد الإدهاش، حاوية لرواسب شتى بعيدة عن النظر. الحياة لا تتوقف كما نريد، ولا تنتظر من فاعليها ما يرغبون حتى تجسِّد ما ترغب. ففي جميع الرغبات، ستجد أنت ما تدَّعي وتبرِّر، ولكن الحياة ستدهشك على الدوام بالمفاجآت.
نحن كائنات إنسانية نعطي جوانب العالم المعنى والحقيقة، لكنه عالم لا يعطينا سوى ما نشعر به ونتفاعل معه. فأشكال الحياة التي نحياها ليست متماثلة مع البشر جميعهم، إنها معطيات خارج السيطرة، نختار من بينها الأقرب للاحتمال، لا المحتوم بظروف غير معروفة، على الرغم من أن خداع السيطرة على الأشياء يظل مهيمنًا على عقولنا حتى الرمق الأخير، في سعي محموم للتعبير عن كياننا الهش، في حين أن الرثاء يلاحقنا نحن البشر من عصر إلى آخر... لماذا لم نهيمن على حياتنا إلى هذه الدرجة المرغوبة أو تلك؟!
في هذا الاتجاه، ثمة مسافة متباعدة بيننا وبين الوصول إلى نقطة النهاية، لأن المعاني المختلفة والأفعال الطارئة والأشياء الحادثة قضايا تجعل ثمة إمكانية مفتوحة على المجهول. وما أكثر بعد الآخر وقربه بالوقت نفسه. تلك المفارقة الزمنية التي تحكم علاقتنا بمن نحن ومن ليس نحن.
السبب غاية في البساطة: أننا نعجز عن أن نعيش حيوات الآخرين كما هم. أي أنك لا تستطيع إلا أن تكون أنت، أنت المتفرد، حيث يواصل حلمك قفزًا داخل ذاتك. ومع هذا، أنت تظل تلاحق الأحلام طوال العمر، آملًا أن يقفز إحداها إلى الخارج. فالحياة بصمة لا تتكرر مرتين، حتى لو تزاملنا نحن البشر العيش معًا، ثم إنها لا تُعاش فعليًّا إلا مرة واحدة. هل يوجد إنسان عاش مرتين؟! إن كل من لم يستطع مواكبة المصير مع سواه، لم يكن له أن يحيا وجود الآخر مثلما هو. إنهما حينئذ شخصان اثنان بالعدد الحسابي، لا إمكانيتان إنسانيتان بالتبادل. ولذلك تتلقى حياتنا الخاصة صورًا متعددة عبر أنماط البشر بأشكال غير محدودة. بل نحن على موعد متوقع في أية لحظة لتلقي هذه التجارب!
على الرغم من ذلك، من المحتمل أن تجارب الناس المختلفين لا تذهب سُدى ولا تنتهي دون آثار باقية. هي تجارب تظل قرينة الثقافة، وبالتحديد، تترسَّب تجارب الآخرين في غربال الحياة الذي ينقِّي المفيد والضروري. هكذا يصل الآخرون إلينا عبر وجودنا المشترك داخل الثقافة. لا أحد يفلت من هذا الغربال، فلا يستطيع أحدهم أن يقول نقيض ما يحيا، لأنها لن تكتب ما يريده، ولا تقول إلَّا ما حدث وما لم يحدث فعلًا. ولذلك، تُمثِّل الثقافة مدوِّنات وسرديَّات كبيرة بحجم المجتمع، بل هي التاريخ الذي تحقِّق وبات على مقربة من ناصية وجودنا، مُشكِّلًا ماهيته. تجيب الثقافة عن سؤال: كيف نعيش نحن البشر هذه الحياة المتفلِّتة دومًا؟!
لم يكن متصوَّرًا أن ما يكتبه الكاتب -أي كاتب- سيراه يومًا ما رأيَ العين. الكتابة هي المعنى الذي يجعل هناك سياقًا للقول، سياقًا للفعل والرؤية. هي فعل الزمن الآتي متخفيًا عبر وجودنا. الكتابة تقول لنا إن الإنسان الآخر معنا لا يبارحنا مهما تنصلنا من ذلك، ومهما ابتعدنا بوجودنا قليلًا أو كثيرًا. الكتابة هي قدرتنا على كشف الواقع واحتمال وجودنا فيما لا نراه. الكلمات تستبق إلى ما يمكن وجوده على المدى البعيد، وربما هي المعاني لمحاولة الإجابة عن أسئلة حياتيّة مزمنة. بأيِّ صورة تأتي تفاصيل عالمنا الإنساني؟! وما آفاق الحياة بيننا نحن بني البشر؟! ذلك هو الوضع المتأخر أمام أرجوحة الواقع والفكر، النظر والمجتمع، التي لطالما أجهدت الفلاسفة. وهي الأرجوحة التي استهلكت أدمغتنا عبر تاريخ البحث عن فهم الأحداث والظواهر من حولنا. فجأة، تجد أن ما تكتبه وستكتبه سيلاقيك في التفاصيل جميعها. هل دماغ الإنسان مُفصَّل على واقع يستبقه إلى حيث كان هو؟!
لكن الأمر غدا مقلوبًا، فبدلًا من أن تنقل الكلمات واقعًا، أصبح الواقع في الزمن هو ما ينقل ويستبق إلى المستقبل. أهو تمويه الواقع عندما يمكنك رؤيته فيما بعد؟! هل ثمَّة ذاكرة في الحياة ممتدّة تُعطيك كشفًا تدريجيًّا رامِيةً إلى المستقبل؟! هل الماضي يأتي من الغد لا من الأمس؟!
يوجد من يكتب إزاء مسألة من المسائل انطلاقًا من خبراته وتجاربه التي مرَّت. يُحلِّل وينتقي ويُشذِّب بقايا العالم وأحداثه، ثم يقدِّمها للقارئ أنها صورة للحياة. والتاريخ قائم على الفكرة العامة التي تقول: إن أحداثًا وحيوات وأزمنة وعصورًا قد مرَّت بنا نحن البشر، إذن كيف نكتبها؟!
هكذا تُقدِّم الكتابة نفسها كونها ممارسة فردية من بعيد، فلا أحد يستطيع الزعم بأنه يكتب مع كتابة آخرين. أن تكتب يعني أن تختار زاوية خاصة أنت مَن سيراها. ومن المستحيل الكتابة بواو الجماعة. كل من يستعمل «نحن» و«كلنا» و«عامة الناس» سيسقط فيما كان يتحسَّب منه. هو الخطأ الذي يدفعه للتعميم دون جدوى. وأغلب منزلقات الكتابة أن تُعمِّم! دع القارئ هو من يشعر بظلال التعميم دون أن تستبقه أنت إليه. لو استبقتَ ظلال الأحداث، ستسقط في الزمن مثل أوراق الخريف بالضبط.
إن الكتابة حياة بمعناها الأوسع، ليست تقنية طرح أفكار عبر حروفٍ منحوتة من معاجم، فهي حصيلة التجارب بعد أن تحوَّلت إلى سرد داخلي، بعد أن غدت نَسغًا للواقع. ومن ثم، ليست الكتابة نسخًا لما نمرُّ به من مواقف، ولكنها كشف، نبوءة، حسّ مختلط بجميع كيان الإنسان. أن تكتب مؤدّاه أن تندمج وتتوحَّد مع كل كيانك المُترقِّب للأشياء المفاجئة، تمامًا مثلما كان الإنسان يعيش في كهف خائفًا من حيوانات الغابة، ومثلما أدرك بكل غرائزه أن كيفية العيش هي اللحظة التي ينجو فيها من افتراس محقّق. الحروف في الكتابة هي سهامه التي اعتنى بها وثقّفها حتى تُصيب، والكلمات هي الكوخ الذي يوقد به نارًا للتدفئة، وفنون العيش، وإشعال رغباته.
الكتابة استكشاف شديد الخطر يرمي إلى الغد، إنها التناقض الجوهري عندما يمرُّ الواقع من وجودنا الحر. كيف يكون الواقع واقعًا ثم يوجد أمامنا في الزمن؟! إنه ما لم تكن الكتابة عملية إنسانية متواصلة نحو الغد، فلن تكون ذات مكانة. والرمي إلى الغد لا يُقصَد في الغالب لذاته، لأن عقل الإنسان متناغم مع واقع ما ومتنافر معه في الوقت عينه. العقل يعيش تجربة الحياة التي يُفرزها عبر ما يحيا ويعيش، والعقل يعيش على خلاصة وجودنا. ليس كلَّ ما هبَّ ودبَّ يدخل إلى عقولنا، إنه يأخذ الجانب الهادئ والحكيم والعاصف في الآن ذاته.
الكتابة تلتقط هذه المفارقة السائلة، بلغة الفيلسوف البولندي زيجموند باومان، مفارقة أن تكتب، وفي اللحظة نفسها، لا تكتب لأناس معينين إلَّا بمقدار ما تراهم فيما هو آت. إنهم سيتقبلون كلماته أو لا يتقبلون، إنهم سيجدون له مبررًا أو لا يجدون، ولكن في الأحوال جميعها، ستتعقبهم الكتابة في الزمن كاشفةً لهم الطريق.
تسري هذه الفكرة على كافة الجوانب الإنسانية. في إطار السياسة والمجتمع، على سبيل المثال، ستجد الواقع سبَّاقًا لما قد نكتب، والمدهش أنه واقع متقدِّم على ما تم انتقاده أو شجبه فعلًا. فالاستبداد وحركة المجتمعات لا ينتظران أفعال البشر، «المواطنين» فيما يُقال، لكونهما، «أي الاستبداد وحركة المجتمعات» يرميان بثقلهما نحو المستقبل عادةً. كل استبداد يراهن على المساحة الحرة من وجودنا وإن كانت داخل كل فرد على حدة. المهم أن الاستبداد سيُشعرك بكونه أبعد من الإمساك به، حتى يعود بكل قوته. الاستبداد غدا أكثر شراسة، لا يدَّخر وسعًا للانقضاض على فرائسه في أي مكان. وللاستبداد قدرة على إشغال توقُّعاتنا القريبة باستمرار. وإذا كانت ثمة سمة تميِّزه، فهو اللعب على الجوانب المتخيلة من وجودنا المشترك. لو قلت إن واقع الفساد أقل مما حُدِّد، فالمسألة ستحتاج إلى رؤية أخرى.
لأنَّ الكتابة في مثل هذه الحالات، على الرغم من فرادتها بالنسبة لكاتب أو آخر، فإنها مسؤولية تنتظرنا جميعًا لتغيير الواقع، وكشف الحجاب عن الحياة الحقيقية التي تليق بنا نحن بني الإنسان. وهذا ما يدلُّ على أن القراءة لون من ألوان الكتابة أيضًا؛ لأن الكتابة مؤثرة بالقدر الذي يجعلها عائدة داخل عملية التلقِّي والتواصل. ثم إن الحياة واحدة، وأن ما نكتبه نحن منها، ستأخذه هي وتصوغه في اتجاهات عدة بصور مختلفة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.