الكائن الموهوم

في البدء، لم نكن نعلم أننا موجودون.
كانت أعيننا تتفتح على هذا العالم كما تُفتح النافذة على مشهدٍ لم نختره، وكأننا نُزجُّ في عرضٍ حيٍّ دون تدريبٍ مسبق.

منذ لحظة الوعي الأولى، تبدأ الحكاية…
قيل لنا: «هذا صواب، وذاك خطأ»، «كن مثل هذا»، «لا تفعل ذاك»، «هكذا تُحب، وهكذا تُبغض، وهكذا تنجح».
نمت كأشجار غُرست في تربة لا تملك حق اختيارها، سُقينا بأفكار لم نطلبها، وشُذِّبت فروعنا كي تُناسب حديقة الآخرين.

من يقودنا من الطفولة إلى النضج؟
هل كنا فعلًا أحرارًا في اختيار طريقنا؟ أم أن المُربِّي، والمعلِّم، والمجتمع، شكَّلوا لنا خارطة الحياة ثم قالوا: «اختر طريقك»؟
كأن يمنحوك صندوقًا مغلقًا بداخله لعبة واحدة، ثم يُصفقون عندما تقول إنك «اخترتها».

مع الوقت، تصبح عقولنا متخمة بما يُشبه «الاختيارات»، لكنها ليست أكثر من نتائج لبرمجة دقيقة، غُرِزت فينا منذ نعومة الأظافر.
الإعلانات ترسم لك الحلم، التعليم يحدد لك الطريق، والسلطة تضع الحدود.
كلهم، في اتفاقٍ غير معلن، يُعيدون تشكيل ذوقك، حاجتك، ولغتك في التعبير عن نفسك.

هل تشتري الهاتف لأنك «تريده»؟ أم لأن إعلانًا صُمم ليُقنعك بأنك لا تكتمل بدونه؟
هل اخترت طريقتك في الحب، أم تعلمتها من الأفلام؟
هل آمنت بشيءٍ ما لأنك اقتنعت به، أم لأن كل من حولك آمنوا به قبلك؟

إن ما نسميه «حرية» كثيرًا ما يكون وهمًا معقدًا، صناعة اجتماعية متقنة، تُروِّج لك أنك تختار، أما أنت في الحقيقة تُنفذ برنامجًا غير مرئي.
حرية مزخرفة على هيئة شعارات، في حين أن الأوامر تُمرر في اللاوعي، مغلَّفة بلغة العاطفة والانتماء والخوف من العزلة.

وهنا تكمن المفارقة

الإنسان، الكائن الموهوم، لا يملك أن يرى قيوده لأنه نشأ داخلها.

يظن أن خطواته هي قرارات، وأن ذوقه صوته الحقيقي، لكنه في الواقع مجرد صدى لما لُقّنه العالم من حوله»

لكن، هل هذا نفي للحرية بالكامل؟
لا.
بل هو دعوة لفهمها كرحلة، لا كهبة.
فقط حين تُدرك أن اختياراتك قد صُنعت، تبدأ باستعادة جزء من إرادتك.
حين تشك، تُراجع، تخرج من القطيع، تخلق لغتك الخاصة، وتُعيد تعريف الحلم… تبدأ أولى خطوات الحرية.

فالحرية ليست ما تُمنح، بل ما تُنتزع.
ليست في الاختيار بين ما قُدِّم لك، بل في خلق خيارات جديدة.
في أن تقول: «لا» حين يتوقع الجميع منك «نعم».
في أن ترى القفص، لا أن تزيِّنه.

الكائن الموهوم… هو كل من ظن أنه حر، لأنه فقط لم يرَ السلاسل.
لكن، إن وعى وهمه، فإنه يكون قد بدأ أول تمرينٍ حقيقي على الحرية.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة
بقلم امجد احمد عطيه العجارمه
بقلم بسمة رمضان السيد
بقلم سماح منذر حلاق
بقلم أمير رمضان إسماعيل
بقلم أمير رمضان إسماعيل
بقلم أمير رمضان إسماعيل