دخلتُ عالم نجيب محفوظ من بوابة اللص والكلاب؛ أبهرتني تفاصيله، لغته الحية، شخصياته المتحركة في خيالي حتى هذه اللحظة.
كنتُ في سن مبكرة، غَرًّا، أعتقد أنني كلما قرأت كتابًا قضمت جزءًا كبيرًا من العالم، لكن مع الوقت اكتشفت أنني أنا من يؤكل، إلى أن أصبحتُ لا شيء مقابل الأشياء.
في عالم تحفه الأكاذيب، ولا نعثر على الكلمة الصادقة إلا بعد معاناة من البحث في أكوام القش، هكذا ساقني القدر إلى أول كتاب أقرأه، أول رواية، وهي اللص والكلاب، بعدها عرفتُ من أين أشرب الماء وقت الظمأ.
أعماق النفس البشرية في الرواية
في الحرافيش، يظهر رجل عملاق اسمه عاشور الناجي، يلقِّن الفتوات في حارته والحواري المجاورة دروسًا لا تُحصى، ثم يخرج من نسل عاشور الزاهد، والداعر، والمتكبر، وقليل الحيلة، والماكر، والصبور، حتى يظهر أكملهم في الصفات، مسمى باسم الجد الأول عاشور، وتُختم به الرواية بعد أن حقق أعظم انتصار، وهو انتصاره على نفسه.
تكمن عظمة رواية الحرافيش في رؤيتها للتفاصيل، وكأن عين الكاتب هي عين طائر يحلق ثم يهبط فيوزع نظره في الأزقة ليعرف ما يجري، ولم يكتفِ الكاتب بهذا، بل وصف الاضطرابات النفسية والعقلية لأبطال روايته والشخصيات الثانوية.
الحرافيش هي رؤية تاريخية للنفس البشرية، تسلق السلم الاجتماعي وهبوطه، الصراعات من أجل امتلاك السلطة بالقوة أو بالحيلة أو بالإجماع والتشاور، طوفان الأغلبية ضد القلة المستحوذة.
الحرافيش هي رؤية تاريخية للنفس البشرية، تسلق السلم الاجتماعي وهبوطه، الصراعات من أجل امتلاك السلطة في الحارة بالذراع أو بالحيلة أو بالإجماع والتشاور، طوفان الأغلبية (الحرافيش) ضد القلة المستحوذة.
من ناحية الجزء اللغوي في هذه الرائعة نجد لغة ليست فضفاضة مرصعة بالمجاز، ولا لغة شاعرية مختزَلة ومكثفة، بل لغة تأخذك بسحرها بالمزج بين الحقيقي والمجازي، فلا تعرف هل هذه الجملة يُقصد بها الحقيقة أم المجاز، وهل هذه استعارة أم لا، هل هي تورية لها وجهان أم كتبت بوجهين من غير قصد لتورية!
هكذا هي لغة نجيب محفوظ في أعماله، فهي تأخذ من هويته، نشأته، وتخرج لنا مزيجًا رائعًا يجعلك ذاهلًا أمام هذا الصرح اللغوي الجميل.
أما هذا البناء القوي المتماسك الذي يسمونه الحبكة، فأنت أمام تسلسل لنسل من عائلة عاشور، تنتقل من قصة لأخرى، ومن أسطورة مدهشة لأسطورة أكثر إدهاشًا، كل هذا في ما لا يتجاوز الخمس مائة صفحة.
نقاط ضعف الإنسان
تمنيت ألا تنتهي هذه الرواية وأستمر في قراءتها، لكنها انتهت بعد تلكؤي في القراءة، دخل عالم الحرافيش عالمي، ودخلت عالم الحرافيش، تاركًا كل ما أريده خلف ظهري، راغبًا في مزيد من اللغة والخيال والمشاعر، وإذا بي حصَّلت ما أريد.
انظر معي هذه الفقرة الصغيرة منها:
"في هذه الحال تلوذ الجميلة الماكرة بانطباع شخصي قد يصدق وقد لا يصدق، ولكنه يترك أثره المحتوم. لن تصرِّح بأكثر من أن نظراته لم تعجبها، لم ترتح لها". الحرافيش، ص 165.
خبرة نجيب محفوظ في الطباع البشرية، وفي المرأة المصرية وأساليبها الملتوية، تظهر أمامك وتجعلك تنفعل أشد انفعال، كيف وصل هذا الرجل لهذا المستوى من التعمق الحسي والمعرفي الذي يجعله يستشف مشاعر غريبة عنه؛ جنسًا، ونوعًا، وذائقة.
يمكن أن أكون منفعلًا لأنني متحد مع شخصيات الرواية الآن، وقد عزلني هذا عن الواقع، وبصراحة الرواية التي لا تجعلني أنعزل عما حولي لا أسميها رواية بغض النظر عن نوعها وتصنيفها النقدي.
انظر أيضًا حينما قال:
"لا دائم إلا الحركة، هي الألم والسرور، عندما تخضرُّ من جديد الورقة، عندما تنبت الزهرة، عندما تنضج الثمرة، تُمحى من الذاكرة سفعة البرد وجلجلة الشتاء".
هل هي الفلسفة في ثوب الأدب، أم الأدب يتفلسف، أنت لا تنزل النهر مرتين، وهو ما عبَّر عنه الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، أن الحركة هي أساس كل شيء، التغيير هو الدائم ولا شيء آخر.
يرى نجيب محفوظ أن نقاط ضعف الإنسان هي حبه للسيطرة على العباد وحب القوة، هكذا تم بناء ملحمة الحرافيش بداية بعاشور الناجي صديق الحرافيش وواحد منهم، ونهاية بحفيده عاشور صديق الحرافيش، ومحررهم.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.